إذا نظرت من فندق ركسوس في طرابلس ترى أن الحرب في ليبيا حدث سريالي. فالحافلات تحمل يوميا مجموعات من الصحافيين لمشاهدة المظاهرات التي يشارك فيها مؤيدو النظام، بينما يتردد عبر نظام الاتصال العام كل ليلة نداء ''نرجو من جميع الصحافيين التجمع في الساعة الثامنة مساء لحضور مؤتمر صحافي''.
بالنسبة إلى معظم الصحافيين الأجانب، ثمن العمل من طرابلس هو الإقامة في فندق ركسوس تحت رعاية مسؤولين حكوميين يعطونهم زاداً ثابتاً من الدعاية.
أما محاولاتك كي تترك المكان بنفسك، فتواجه برفض مؤدب من جانب الحرس. وأولئك الذين استطاعوا الخروج إلى جولات تغطية ''أحادية'' إلى داخل المدينة، يعودون في شاحنة صغيرة محاطة بجنود يحملقون بشدة. وبعد تفتيش جسدي تتم مرافقتهم إلى داخل الفندق.
لكن صباح الأربعاء ظهرت قطعة صغيرة من عالم الواقع واندفعت إلى عالمنا السريالي اسمها إيمان العبيدي.
كان من الواضح أنها في حالة شديدة الاهتياج. اندفعت إلى المطعم بينما كنا نتناول الإفطار، وصرخت رافعة تنورتها عن ساقيها لتظهر كدمات على فخذيها.
صرخت بأعلى صوتها ''انظروا ما فعل بي (معمر) القذافي''.
أصبنا بالذهول للحظة، دون أن ندرك معنى ما نشاهده.
هل كانت مضطربة عقلياً؟ هل كانت محرضة؟ أم أنها مخلوق غريب آخر من الواقع الزائف الذي نشاهده يومياً؟ أم هل كانت تقول الحقيقة؟
قالت إيمان العبيدي ''لقد فعلوا ذلك بي لأنني من بنغازي''. وظلت تردد ذلك بينما أحاط بها على الطاولة موظفو الفندق.
لكن عندما بدأنا نتجمع ونوجه إليها الأسئلة أصبحوا عصبيين.
قالت إنها اعتقلت عند نقطة تفتيش في شارع صلاح الدين في طرابلس ''لأنني من بنغازي''، ثم احتجزت وتم اغتصابها من قبل 15 جندياً على مدى يومين.
بعد أن سمعت مجموعة من النادلين والنادلات الضجة جاءوا وحاولوا في البداية تهدئتها، إلا أنهم اسكتوها حين فشلوا في ذلك.
وفجأة بدأ عراك بين الصحافيين وموظفي الفندق وقفزت مجموعة من الرجال يرتدون سترات سوداء وأخذوا يدفعوا بنا وهم يطاردون إيمان العبيدي داخل المطعم قبل أن يضعوا معطفاً فوق رأسها. وقفز عدد من الصحافيين إلى حلبة العراك في محاولة لحمايتها، لكنها كانت معركة كنا متأكدين من خسارتها.
تم تحطيم الكاميرات، وتلقى أحد الصحافيين لكمة على وجهه. وكنت أصارع لإنقاذ جهازي، بعدما ألقيت على الأرض وتم ركلي. واستطاع أحد المراسلين، دون ذكر اسمه لأنه ما زال هناك، إنقاذ جهازي، ولذلك أنا مدين له.
في نهاية الأمر لم يكن بيد أحد منا شيء يستطيع فعله. وبعد ذلك العراك وقفنا ببلادة في الحديقة الخلفية ونحن نشاهد إيمان العبيدي تقاد ويتم إدخالها في سيارة.
كان تصرف موظفي الفندق خلال ذلك مثيراً للتساؤل. فقد ساعدوا على إخضاعنا وإخضاع إيمان، لكن اتضحت لي بالفعل الجهة التي يعملون لها حين اشتكيت إلى أحد موظفي الاستقبال.
قلت له: ''لقد ألقي بي أرضاً وتم ركلي في مطعمكم من قبل موظفيكم''.
أجابني وهو يهز كتفيه:''لا، ليسوا موظفينا''.
صرخت في وجهه: ''لكنهم يرتدون الزي الرسمي الخاص بكم''.
أجابني بلهجة اعتذارية خاصة بموظفي استقبال الفنادق حول العالم، وكأنما قلت له إنه لم يتم ترتيب فِراشي: ''إنهم ليسوا من موظفينا. إنهم يعملون مع جهة أخرى''.
على أية حال، كانت جهود الشرطة السرية سببا أن يحرز نظام القذافي هدفا آخر في مرماه. فهي مجهزة للتعامل مع جمهور مرعوب ووسائل إعلام مسيطر عليها، ولم تدرك أن جهودها لإسكات إيمان شكلت صورة أقوى بكثير من الكلمات التي نطقت بها الضحية.
لو كان المسؤولون عن الصحافة قد أعطونا ببساطة غرفة مؤتمرات لسماع ما تقوله العبيدي، لكان يمكن أن يكون الأمر قصة صغيرة في يوم مليء بتظاهرات سورية، وتسرب نووي ياباني، وثوار ليبيين يتقدمون نحو أجدابيا.
وبدلاً من ذلك انتشرت صور وأخبار الاعتداء على إيمان العبيدي من جانب عصابة من جنود القذافي على الصفحات الأولى عبر العالم. وعمل هذا بصورة فورية على بلورة الصراع في ليبيا أمام جمهور عالمي غير ملتزم، حاملا حقيقة أن هذه الحرب يتم خوضها لحماية الشعب من النظام.
في ذلك اليوم تم تدمير كل جهود الحكومة الليبية لتعزيز روايتها. وانهار بالفعل كل ما كان من الممكن أن يظهر دليلاً صغيراً مؤيداً لأقوال الحكومة على مستوى المؤيدين المستأجرين، وعلى مستوى القطع الموصل بعضها بالآخر بطريقة مسرحية تعرض على الصحافة الأجنبية، وكذلك ما تم الادعاء بأنه إصابات مدنية سببها الحملة الجوية. وكان سبب انهيار كل ذلك شجاعة ويأس امرأة واحدة.
وصف موسى إبراهيم، المتحدث باسم الحكومة الليبية، إيمان العبيدي بأنها ساقطة. وقال أقاربها الذين تمت مقابلتهم شرقي ليبيا، إنها محامية. وتحدوا ادعاء الحكومة بأنها تم إطلاق سراحها وأنها الآن في رعاية أختها. وقالوا إنها ما زالت محتجزة رهينة.
أتذكر أنني تساءلت حول الحالة العقلية لإيمان العبيدي، لكن الانطباع المهيمن عليّ هو أنها كانت تقول الحقيقة. فقد تصرفت تماماً كأي شخص عاش الأحداث التي كانت تصفها ولم تتناقض مع نفسها. وكانت تتحدث بالعربية الفصحى، بل وببعض الإنجليزية. وبدا أنها من أسرة متعلمة وغنية. وإذا أصيبت باختلال عقلي، فإنني أتوقع أن ذلك كان بسبب ما تعرضت له.
عدت إلى مكان عملي في موسكو، بعد أن تم ترحيلي إثر هذا الحادث يوم السبت إلى تونس. وقيل لي قبل ليلة من ذلك إن وجودي في ليبيا غير مرغوب فيه بسبب ''انعدام الحقيقة'' في كتاباتي. ورفض الرجل الذي قال لي ذلك تبيان المزيد عن عدم كتابتي للحقائق. وبعد عراك السبت قررت أن الأفضل هو ألا أحاول التفاوض وأن أغادر على الفور، لأنه كان من الممكن أن أتهم بمهاجمة رجل شرطة ليبي.
غير أن خيبة أمل ذلك اليوم ومأساته ما زالتا ماثلتين أمامي، ولا أشعر بالارتياح تماما لدوري في الأحداث وأنا أصارع حارساً أمنياً على شاشات الفيديو.
ليس الأمر أنني أشعر بأننا كان يجب أن نقف ''على الحياد'' كما يفعل الصحافيون. لكن أياً كانت دوافعنا السامية فقد زدنا الأمور صعوبة على إيمان العبيدي حين تم أخذها – وكنا نعرف جميعاً أن ذلك سيحدث.
في النهاية لم يكن بوسع الكاميرات، والمسجلات، وموجات الهواء، والصحف، أن تفعل شيئاً لهذه المرأة الوحيدة التي تعيش في عالم تأتي فيه القوة من فوهات البنادق.
دعونا نأمل ألا يذهب جهدها الصغير في سبيل التغيير هباءً.