الرجال والنساء الذين سافروا جواً في فجر عصر الطائرات كانوا أغنياء ويتحلون بالجرأة نوعاً ما. قبل 50 عاماً كنت تستطيع شراء سيارة مرسيدس بنز جديدة بثمن تذكرة طيران، ذهابا وإيابا، من نيويورك إلى فرانكفورت. الآن يبلغ سعر أي موديل من الماركة الألمانية الفارهة عدة أضعاف ما تكلفه أكثر الرحلات الجوية عبر الأطلسي رفاهاً.
وأهم من ذلك كان نحو 27 شخصا من كل مليون مسافر يلقون حتفهم على متن الطائرات الأقل تطوراً من الناحية الفنية، التي كانت تستخدم في ذلك الوقت. واليوم معدل الوفيات أقل من واحد في المليون. وكما ترغب صناعة الطيران أن تقول، الطيران أكثر أماناً مما كان عليه في أي وقت. ففي الولايات المتحدة عدد الذين يموتون في حادت لقارب ترفيهي يزيد على عدد الذين يموتون في حادث تحطم طائرة في سنة عادية.
لكن نظرة أدق إلى أرقام حوادث الطائرات في العالم تكشف عن صورة أقل إشراقاً. ففي بيانات تم جمعها لحساب ''فاينانشيال تايمز'' من قبل شركة أسند Ascend الاستشارية ـ التي تستخدم قاعدة بياناتها الخاصة بالحوادث الجوية من قبل كبريات شركات التأمين في العالم لتحديد مبالغ التأمين التي ينبغي أن تدفعها شركات الطيران ـ يتبين أن التقدم في السلامة الجوية بعيد عن التجانس.
انظر إلى سجل شركات الطيران التجارية التي يزيد عددها على ألف شركة في العالم. فقد تولت 25 شركة منها فقط نقل نصف المسافرين جواً، الذين يبلغ عددهم 11.5 مليار شخص في الأعوام العشر الماضية، حسب شركة أسند التي تعود بياناتها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. ومن بين الشركات الـ 25 وقعت لخمس منها ست حوادث – حادثتان لشركة تام البرازيلية وحادث قاتل واحد للشركة التي كانت موجودة قبلها. وآخر هذه الحوادث كان تحطم طائرة تابعة لشركة إير فرانس عام 2009 في المحيط الأطلسي قتل فيه 216 راكباً.
وفي المجمل بلغ عدد قتلى تلك الحوادث 873 راكباً. ويشكل هذا الرقم – الذي لا يشمل أعمال العنف المتعمدة، كعمليات الخطف، أو التخريب – 13 في المائة فقط من الركاب البالغ عددهم 6566 شخصاً ممن ذهبوا ضحية الحوادث الجوية المسجلة في ذلك العقد. بعبارة أخرى، معدل الضحايا بالنسبة لشركات الطيران الأكثر ازدحاماً، البالغ عددها 25 شركة، هو واحد في 13.2 مليون. وبشكل مختلف، فإن 0.000008 في المائة من الركاب الذين نقلتهم تلك الخطوط قتلوا.
هذه الأرقام لها إيحاءات مالية كبيرة. فقد سجلت تكلفة التأمين على طائرات الركاب انخفاضاً كبيراً في الأعوام الـ 20 الماضية، كما يقول بول هايس، مدير السلامة الجوية في شركة أسند. ويضيف: ''ربما كان شراء البسكويت المملح على الطائرة يكلف أكثر من التأمين عليها الآن''.
بيد أن سجل كثير من مئات الشركات الأخرى التي تطير كل عام أقل إثارة للإعجاب، خاصة في أجزاء معينة من العالم. فخلال الـ 40 عاماً الماضية تحسنت سجلات السلامة في جميع المناطق باستثناء واحدة. ففي إفريقيا لم يتحسن المعدل، ليس هذا فحسب، بل ازداد سوءاً. في سبعينيات القرن الماضي كان معدل وقوع الحوادث القاتلة في القارة السمراء واحداً لكل 190 ألف رحلة جوية. وفي العقد الأول من الألفية الجديدة كان هناك حادث تحطم قاتل في كل 160 ألف رحلة.
وأسباب ذلك مفهومة جيداً. ''مزيج من رداءة البنية التحتية، وافتقار الحكومات إلى الموارد لتنفيذ مراقبة معايير السلامة العالمية، وعدم كفاية الاستثمارات في التدريب''، كما يقول جيوفاني بيسيغناني، رئيس الاتحاد العالمي للنقل الجوي، أياتا، الذي يمثل 230 من شركات الطيران في سائر أنحاء العالم. وتدير أياتا برنامجاً لمراقبة السلامة يقول بيسيغناني إنه بدأ يؤدي إلى بعض التحسن في إفريقيا أخيرا.
لكن المشاكل في أجزاء من القارة ما زالت مؤرقة. يقول هايس: ''في جمهورية إكس الديمقراطية يستخدمون أجزاء موسعة من الطريق بدلاً من المدرج. وفي جوما فقدوا مسافة طويلة من أحد المدارج لسيل الحمم البركانية. لقد غاصت بضع طائرات في حائط خطر من الحمم البركانية على المدرج''.
ويتضح فارق السلامة أيضاً في أماكن أخرى. فلدى شركات الطيران في أمريكا اللاتينية التي بدأت اقتصاداتها تجعلها نقطة جذب كبيرة للمستثمرين، أسوأ معدل لحوادث التحطم بعد إفريقيا. ولدى دول الاتحاد السوفياتي السابق سجل سيئ جداً هي الأخرى. وشهدت روسيا نفسها أسوأ معدل شطب للطائرات في العالم في عام 2007، كما تقول أياتا.
ويضع خبراء السلامة اللوم في ذلك على عدم كفاية أنظمة مراقبة السلامة لدى مئات شركات الطيران التي نشأت عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، رغم أن أياتا تقول إن بعض التحسينات حدثت في الآونة الأخيرة. ومع ذلك ما زال أمام تلك المنطقة، كغيرها من المناطق، مشوار طويل كي تتغلب على أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، وهما المنطقتان الوحيدتان اللتان شهدتا ارتفاعاً في معدلات السلامة خلال الـ 40 عاماً الماضية.
إن توافر طائرات أكثر تقدماً وتطوراً على الدوام – مزودة بأجهزة استشعار يمكنها أن تنبه الطيارين للخطر الوشيك الذي ينتظرهم، سواء أكان جبلاً قريباً أو اقتراباً سريعاً لدرجة الخطر من المدرج - جعل الطيران في هاتين المنطقتين أكثر أماناً بكثير.
لكن إلى أن تلحق بهما بقية العالم، تظل الأجواء خارج الغرب على درجة عالية من الخطورة بالنسبة لملايين المسافرين في كل عام.