العنصرية، وليس التعدد الثقافي، هي التي اخترقت لندن في أواخر الستينيات. كان الأطفال البيض والكاريبيين المهاجرين يعيشون بجوار بعضهم بعضا، ويذهبون إلى حفلات أعياد ميلاد بعضهم بعضا، ويلعبون في فرق كرة القدم والكريكيت نفسها. لكن معلمة الصف في مدرستنا الابتدائية التابعة للدولة كانت تضرب الأطفال السود بقسوة بعصاها وتطالب بأن ''يعودوا إلى قارب الموز''.
لم يكن هناك من أمر مسيء للغاية في خطاب أدلى به ديفيد كاميرون أخيرا حول فشل ''التعدد الثقافي''. لم يتم ذكر مجتمع السود الكاريبيين في بريطانيا على الإطلاق، ولم تكن هناك حاجة إلى ذلك. ووجدت دراسة حول المواطنة أجرتها الحكومة في 2009 – 2010 أن 85 في المائة من ذوي الخلفية الكاريبية كانوا يشعرون بالانتماء القوي لبريطانيا. ومع ذلك لدينا إحصائيتان مهمتان من تلك الدراسة. فقد تبين وجود 91 في المائة من ذوي الخلفية البنغلادشية بين أولئك الذين لديهم شعور قوي بالانتماء إلى بريطانيا، و90 في المائة من ذوي الخلفية الباكستانية كانوا في صفوف من لديهم مثل ذلك الشعور أيضا. فما هو مدى انتشار عدم الانتماء والنفور بين المسلمين البريطانيين الذي تحدث عنه رئيس الوزراء؟ ربما يكون أقل مما أوحى به.
ما من شك في أن عددا قليلاً من المتعصبين يحملون جوازات سفر بريطانية ويسعون إلى تنفيذ هجمات إرهابية باسم الإسلام. لكن هذه مشكلة أمنية، بينما تعدد الثقافات مسألة اجتماعية. ولا تتعدى الأخيرة كونها أحد الأسباب الكثيرة للأولى.
يتضمن تعدد الثقافات دلالات إضافية مختلفة. وحين شجبته المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، استخدمت كلمة multikulti التي تستعيد في الأذن الألمانية صور اليساريين والهيبين المحزنة. وكانت تسخر بذلك ليس فقط من النهج التقليدي للدولة الألمانية إزاء المهاجرين، وإنما كذلك من الخصوم اليساريين.
أما كاميرون، فعلى النقيض من ذلك ركز على محاولات الحكومات البريطانية المتتابعة تشجيع التسامح مع الأقليات من خلال السماح لهم بالعيش المنفرد بدلاً من استيعابهم. ولم يكن ما قاله جديداً.
وفي تتبعه لكيفية جعل الشباب المسلمين متطرفين، تزحلق كاميرون فوق استنتاجات توصل إليها تقرير لجنة تابعة لمجلس العموم حول برنامج الحكومة في مواجهة التطرف. وبحسب التقرير ''لم يكن هناك انشغال مسبق بالأساس الديني للتطرف، بينما يبدو أن الأدلة تشير إلى أن السياسة، والسياسات، والاقتصاد الاجتماعي ربما تكون عوامل أكثر أهمية في العملية''. فهل يتذكر أحد الحرب على العراق؟
وأثار كاميرون عدداً من الأمور المنطقية. فالتطرف الذي يمارسه الإسلاميون، والإسلام لا يمثلان الشيء ذاته، كما قال. وأضاف متسائلا: انظروا إلى شوارع القاهرة، أليس من الواضح أن القيم الغربية والإسلام منسجمان تماماً؟
لكن هجومه على تعدد الثقافات كان في أصله صرخة حزن على تفكك الخطاب القومي الذي حدد ماهية أن تكون بريطانياً منذ القرن الثامن عشر. ويمكن سماع صرخات مشابهة هذه الأيام عبر أوروبا. فالخرافات، والمثاليات، وعوامل الاعتداد بالذات التي شكلت هويات هذه القارة تتآكل تحت ضغط العولمة، وضغط تراجع المسيحية المنظمة، وكذلك ضغط الأنموذج المتطرف من الفردية المادية التي يتم تسويقها على أساس أنها الهدف الأسمى للحياة.
والأمر ليس أن الأوروبيين لم تعد لهم هويات وطنية، ولكن يتم استبدال هويات جديدة أقل تحديدا بهوياتهم، وبخطابات وطنية جديدة. والتذمر من ذلك أمر غير مجدٍ. وتماماً كما أن التاريخ يمضي في حركته، على الهويات أن تفعل ذلك.
لنأخذ الفرنسيين، مثلا. يقال في الغالب إن الهوية الفرنسية الحديثة تنبثق من ثورة عام 1789 وشعارها البطولي الخاص بالحرية، والمساواة، والأخوة. ذلك صحيح إلى حد ما، لأنه بعد 80 عاماً من جز رأسي دانتون وروبسبير، مازال ملايين من الفرنسيين يتحدثون لغات الأقليات، أو باللهجات العامية، وليس بالفرنسية.
ولم يسد شعور شامل بكون المرء فرنسياً إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك نتيجة لسياسات الجمهورية الثالثة الخاصة بالتعليم الشامل، والتجنيد الإجباري، والتصنيع. وتم في تلك الحقبة جعل ماريان رمزاً لفرنسا، واختيار 14 تموز (يوليو) يوما وطنيا، كما تم بناء برج إيفل.
لكن هذا كان في ذلك الوقت. الآن أكثر من 10 في المائة من الفرنسيين، البالغ عددهم 63 مليون نسمة، لديهم أصول أجنبية. وهناك عدة ملايين من أبناء وأحفاد مسلمي شمالي إفريقيا الذين ولدوا في فرنسا. وينطبق الأمر نفسه على بريطانيا. فقد برزت الهوية البريطانية في القرن التالي لقانون الاتحاد عام 1707 الذي وحّد إنجلترا مع ويلز واسكتلندا. وقد سنّ أسنانه استناداً إلى البروتستنتاتية والحروب الطويلة ضد فرنسا التي توجتها معركة ووترلو. واكتسب القوة بعد ذلك من الإمبراطورية الممتدة، ومن النصر في حربين عاليتي التكلفة ضد ألمانيا.
غير أن البروتستانتية والأعداء الأقوياء لم يعودوا تواقين إلى الوحدة. وتم تحويل سلطات كبرى إلى كل من اسكتلندا وويلز. وحدثت هجرة شاملة، وبالتالي ليس من الغرابة أن الهوية الوطنية تتعرض إلى ضغوط.
ما الذي يجب أن يشكل أساساً لهوية جديدة؟ لقد ذكر كاميرون قيم حرية التعبير، وحرية العبادة، والديمقراطية، وسيادة القانون، والحقوق المتساوية، بغض النظر عن العرق، أو الجنس، أو الميول الجنسية. ويبدو هذا الأمر جيدا في نظري. لكن لا تتعجلوا، فهذه هي القيم التي يدافع عنها الفرنسيون، والألمان كذلك. أفلا يمكن أن يكون كاميرون أقل بريطانيةً وأكثر أوروبية مما يدركه؟