بقلم : أشرف البولاقي.
عن دار سندباد للنشر والإعلام صدر ديوانُ " معراج لسماء تحترق " للشاعرة تقى المرسي وهو ديوانُها الأول الذي تأخرتْ كثيراً في طرحه رغم تواجدها على الساحة الشعرية بقصائدَ متفرقةٍ منذ فترة كانت تنشرُها في الصحف والمجلات تارة وعلى شبكة الإنترنت تارة أخرى ، الأمرُ الذي دفعها فيما يبدو لجمع شتات قصائدها المتفرقات هنا وهناك لتخرج بين دفتيْ كتاب ، ورغم ما قد يبدو للوهلة الأولى من تباين بين القصائد من حيث الأسلوب والتقنية إلا أن القاريءَ يستطيعُ بسهولةٍ ويُسر أن يتبينَ خيطاً واحداً وروحاً واحدةً تربطُ بين كل تلك القصائد لتتشكلَ ملامحُ تجربةٍ شعرية متكاملة تُنبيءُ وتشير إلى قدرة صاحبتها على تشكيلها مستقبلاً بصورة تضعُها في صدارة المشهد الشعري
أول ما يلفتُ النظرَ والانتباه في ديوان " معراج لسماء تحترق " أن الشاعرةَ رغم كونِها إمرأة / أنثى إلا أنها لم تستغل ذلك كما تفعل كثيرٌ من الكتابات النسوية المعاصرة في الاتكاء على ألياتِ البوح أو الفضفضة أو الشكوى من الاضطهاد في المجتمعات الذكورية بل إننا نلحظ ُغيابَ أي تعبير أو نسق لغوي يشير إلى المرأة أو الأنثى في القصائد ، حيث ابتعدتْ الشاعرةُ في ديوانها هذا عن شعرية المرأة / الأنثى بعذاباتها ومواجعها الخاصة والضيقة لتحلقَ في الشعرية العامة من حيث أنها تعبير جمالي عن قضايا " الإنسان " ومشاعره ومواقفه ، وجاءت السطورُ الشعريةُ معبرةُ عن تجربة وحال " الإنسان " دون أدنى إشارة إلى أن المتكلم أو المعبر ذكر أو أنثى :
" أُسميكَ شدوَ الربابِ الحزين
...........................
أفتحُ باباً في عتمةِ عينيك
................................
من وجعِ الضياعِ بالطرقات
بزغتْ آلافُ المرايا تناديني
تُرَى أيُّها يشبهني ؟
..............................
يسائلني الليلُ عنك وعني
وكيف التقينا
وكيف نسجنا
فصولاً لها وهجُ العاشقين
....................................
فالمتكلمُ هنا يمكنُ أن يكون ذكراً كما يمكنُ أن يكونَ أنثى ، بل إن الشاعرةَ تلجأُ في أحايينَ كثيرةٍ إلى استخدام صيغة المُذَكَّر فتقول على سبيل المثال :
ما كنتُ إلا عابراً لا يهتدي /أنا هنا يا سيدَ العشق البتول .. أنا الصبُّ الخجول /كئيباً أعبرُ الدنيا / وها قد صرتً محزوناً .......... / ......./ الخ
وهو ما يؤكدُ ما نذهبُ إليه من أن الشاعرةَ مهمومةٌ بالشعر أكثرَ من اهتمامها بما تضج به كثيرٌ من الكتابات المعاصرة للمرأة أو الأنثى خاصة في أطروحاتهم الأولى ولا يكادُ يظهرُ الصوتُ الأنثوى للشاعرة إلا بأخرةٍ من الديوان وتحديداً في ثلاث قصائدَ فقط الأولى قصيدة " قد ضَلَّتْ مَن تهوى شاعر " ص 69 حيث دل المعنى فقط في هذه القصيدة على وجود الأنا الأنثوية ، والقصيدة الثانية " عشرون عاما " ص85 وهي كسابقتها دل المعنى فيها على الأنا الأنثوية ، والقصيدة الأخيرة " أنشودة الوجع " ص 87 التي انفردتْ بالتصريح فيها بدلالة التأنيث حيث تقول :
" عامٌ مضى
ككل أعوامي وحيده
..............
ليلَى أنا ..
وبي مُتَيَّمٌ قُل ألف قيس
.................
فزهوتُ نشوَى "
نحن أمامَ ذاتٍ شاعرةٍ لا تكتوى ولا تحترق إلا بجمرة الشعر والكتابة وهي موقنةٌ أن تلك الجمرةَ لا تعرف الفرقَ بين رجل وامرأة أو بين ذكر وأنثى ولعل الاشارةَ هنا إلى " الجمر " و " الاحتراق " تكون مدخلَنا إلى تجربة الشاعرة وعالمها الذي اختارت لهما عنوانَ ( معراج لسماء تحترق ) حيث تمثل تجربةُ أو عملية " الاحتراق " أهم ملمحٍ من ملامح تلك المجموعة بكل ما تحتملة مفردة " احتراق " من معانٍ ودلالات حقيقية أو مجازية ، مباشرة أو غير مباشرة ، وبكل ما تحتمله أيضا من أبعادٍ صوفية أو وجودية ولعل في انتشار مفردات اللهيب والاشتعال والنار والحريق والحرائق والانطفاء داخل المجموعة ما يؤكد لنا ذلك ...ولأمرٍ ما قسَّمت الشاعرةُ ديوانَها قسمين أطلقت على القسم الأول اسم " طقوس ما قبل الاحتراق " – نثريات – (5 قصائد ) وأطلقت على القسم الأخر اسم " طقوس الاحتراق " وهو القسم العروضي الايقاعي والذي تنوعتْ قصائدُه بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة ( 21 قصيدة ) والقاريءُ للقسم النثري سوف يلحظ أن الشاعرةَ فيه تُقَدِّمُ بالفعل طقوسَ ما قبل الاحتراق وهو ما اقتصرَ على فكرة أو مفهوم ( الاشتعال ) فقط استعداداً للتجربة الكبرى تجربة الاحتراق :
" سأفتحُ في عتمةِ الحزنِ ألفَ باب
وأُشَكِّلُ من جمرِ قصيدي
ألفَ طوقٍ للنجاة " ( ومضات ص 20 )
فهي تتحدث هنا عما هو آتٍ حيث أنها ( س تفتحُ) و (س تُشَكِّلُ ) باعتبار أن الواو عاطفة :
" ويبقى الليلُ وصوتُك
يُشعِلان وحدتي بانتظارك
فأسمِّيكَ حُلماً وأغفو " ( ومضات ص 21 )
" وقَبْلَ الوصولِ الذي لن يكون
تشتعلُ الغيماتُ ، تبكي اغترابا " ( ملتقى الحزنين ص23)
فالاشتعالُ مرحلةٌ تسبقُ الاحتراقَ حتماً لكنها مقدمةٌ له ولم يكن من قبيل الصدفة أن تخلوَ القصائدُ الخمسُ النثريةُ الأولى من مفردةِ واحدة تشير إلى تجربة " الاحتراق " بمعناها ومفهومها الشعري ، وكأن الشاعرةَ اختارتْ النسقَ النثري ليكون مقدمةً لها ، بل إن مفردةَ " الطقوس " نفسَها وردتْ في النصوص النثرية ثلاثَ مراتٍ كاملة :
" غيرَ أن للبحرِ طقوساً من الرهبةِ والخوف " ( اختزال ص 13)
" للأنهارِ طقوسٌ من الحزنِ والظمأِ المُر " ( قطاف الشجن ص 16
" كانت للمرايا طقوسٌ أدهشتني " ( رحيل المرايا ص 25 )
ولم تَرِدْ تلك المفردة في القسم العروضي – على طولِه وكثرة قصائده – إلا مرتين فقط مما يَشي بالقصدية الشديدة عند الشاعرة التي تُعِدُّ نفسَها وقصائدَها وقارئَها أيضا لاستقبال طقوس الاحتراق نفسِه في القسم الثاني من قصائدها وهو القسم الذي اشتعلتْ فيه الذاتُ الشاعرة حتى تحولتْ إلى جمرة ولينتشر الحريقُ والاحتراقُ في كل قصائد ذلك القسم :
فمؤرقونَ على الحدودِ على جمارٍ من فتن " ( اسراء الوجع ص46)
" فأسيلُ جمراً إن رضيتِ فراقي " ( شموع 57 )
" جمراً يُحاكي الزهرَ في عشقِ المطر " ( قدر 65 )
" على جمرةِ الوجدِ يُطْوَى الحنين " ( رباعيات شاردة 75 )
" من جمرِ صبري بُحَّ صوتُ الأغنية " ( رباعيات شاردة 77 )
" وجمر السؤالِ كليلي عقيم " ( جمر السؤال ص72 )
كما أن القصائدَ نفسَها حملتْ في قسمها الثاني عناوينَ تحملُ دلالاتِ الاحتراق مثل : شموع – جمر السؤال – حكايا الحريق وهو ما خَلَتْ منه تماماً قصائدُ القسم الأول التي مالتْ عناوينُها إلى الحزن والشجن والرحيل والفقد وهي دوالٌ جليةٌ تدفعُ حتما للاحتراق .
هل يمكنُ الزعمُ أن الشاعرةَ تجدُ نفسَها في قصيدة التفعيلة أو في قصيدة الخليل ؟ وهل يمكن القولُ إن النسقَ النثري – في هذا الديوان – لا يشكلُ عند الشاعرة إلا مُدخلاً فقط إلى تجربتها الشعرية الحقيقية والقادرة هي فيها على التعبير عن أحاسيسها ومشاعرها ؟ نحن أمام ستِ قصائدَ كاملة التزمتْ الشاعرةُ فيهم عمودَ الشعر بمفهومه الكلاسيكي القديم من حيث الاعتماد على المحسنات البلاغية المعروفة والمتواضع عليها عند شعراءِ ونُقَّاد العربية ، وهي قصائد ( كوجه الغيم –شموع –حنين –قدر –يلومون شعري – رباعيات شاردة ) وباقي القصائد وإن جاءت على النسق التفعيلي إلا أنها لم تبتعدْ كثيراً عن روح وتجليات القصيدة العربية القديمة أيضا ... ليس هذا فقط – بل إن هناك معارضةً لقصيدة " الحُصَري القيرواني " الشهيرة" يا ليلُ الصَبُّ متى غَدُه " الأمرُ الذي يكشفُ ولعَ الشاعرةِ بتراث العربية وتَمَثلِها له :
" الليلُ وطيفُكَ أنشدُه يا ليتَ الليلةَ موعدُه
ما بالِ الفكرِ يُمانعُني والجفنُ يطولُ تَسَهدُه
والقلبُ يذوبُ به كلفاً أملاً في وصلٍ ينشدُه " ( الليل وطيفك ص 65 )
نحن إزاءَ شاعرةِ تشتعلُ أمام كل نص شعري نثرياً كان أم إيقاعياً لكنها تحترقُ وتذوبُ وجداً وهياماً وإشراقاً أمام النص الايقاعي الموسيقي وهو ما يكشفُه ما أشرنا إليه من خلو القسم النثري تماماً من مفردات الحريق أو الاحتراق وتردده بكثرة في القسم العروضي :
" سألتُ وأنتَ احتراقُ السؤال " ( لماذا 39 )
" سأتلو عليكم بُعَيْدَ السلام
فصولَ الهوى والغوى والهيام
حكايا الحريق
وبردَ الرحيق " ( حكايا الحريق ص33)
" لا زلتَ تقطفُ ما تطايرَ
من فراشاتِ الحرائق " ( نبؤة لا تكفي ص 73 )
" ما زال يشعلُ لذةَ الاحراقِ " ( شموع ص 57 )
وإذا كنا قد أشرنا في بداية تلك القراءةِ إلى حرصِ الشاعرةِ على تغييب الأنا والذات الشاعرة الأنثوية فعلينا ألا نغفلَ حرصَها على التعبير بصيغة الجمع أو المثنى في محاولة منها لتغييب " الأنا " ولننظرْ في أول قصائدها " اختزال " حيث تبدأ القصيدة باستخدام ضمير الملكية في قولها :
" رحلةُ الفقدِ
ما زالتْ تحتوي سُفُني "
وتستخدمُ الأفعالَ المضارعةَ : أعبرُ – أعلقُ – أتسلقُ – أدري – أعلمُ .. ولكنها تختمُ القصيدةَ قائلةً :
" غيرَ أن للبحر طقوساً من الرهبةِ والخوف
ومن الخياناتِ أسواطاً تجلدُ ذاكرتي
ولنا جميعاً خيباتنا "
ففي قولها " لنا جميعاً خيباتنا " بدايةُ للتخلي عن " الأنا " واستحضارِ الآخر ليصبحَ ملمحاً متكرراً في كل قصائدها تقريباً :
" نرتادُ حزنًه حتى انطفاءِ العشيةِ
نركضُ خلفَ خيالاتِ وجوهٍ نرتجيها
تتوهُ الملامحُ ، تتغربُ فينا
نرتدي الوطنَ قيظاً وخريفاً " ( قطاف الشجن )
وقولها في قصيدة " ومضات " :
" نضيعُ في رملِ المسافةِ
تتوهُ أسماؤنا
وفي آخر الليل المنهك
يحملُنا قطارُ المتعبين
ونمضي غريبين "
ولم يقتصرْ ذلك على نصوصها النثرية فقط بل امتد أيضاً لقصائدها العروضية .. تقول في قصيدة " أُرمم وجهَ النهار ):
" تعودُ العصافيرُ للصدرِ ..
..........
.........
ترتِّبُ أشواقَنا الساخنة
...............
تبللُ أرواحَنا اللينة
وتمسحُ دمعتَنا المزمنة
.......................
لعل الفصولَ التي أخطأتنا
....................
تعودُ بأحلامِنا الممكنة "
وهو ما يتكرر في قصيدة " اسراء الوجع " :
لنا اصطباراتُ المحنْ
فالعمرُ يزحفُ فوقنا
ليغيبَ في دمِنا الوطنْ
.........................
فيبيعُنا شجرُ البلادِ
يريقُ من دمِنا الثمنْ
فكأن آخرَ ما لَنا
دربٌ من الدمعاتِ أنّ
والأمنيات كنوزُنا "
ولا تكاد تظهر الأنا مفردةً وعاليةً إلا في قصيدة " في شرفة الليل " :
" أنا وردةٌ تأبى الذبول
بستانُ أمطاري تَعَلَّقَ بالسماء
..........................
وأنا هنا "
أرنو إليك / أمد جسرَ الوجد / أعبرُ الأوهامَ / أشري من نسيمات الصبا /أرسمُ كل ما صاغتْ / لتمنحَني الدخول / وحزني المنثورُ ينبتُ / أمد الروحَ لو ترضى ...الخ ، وإذا كانت الشاعرةُ قد بدأتْ ديوانَها بما أطلقتْ عليه " مفتتح أول " و " مفتتح ثان " بدا فيهما ضميرُ المتكلمِ واضحاً وحاضراً بشدة :
" أُسَمِّيَك شدوَ الربابِ الحزين
وبوحَ القرنفلِ والياسمين
أسميكَ طلاً ونخلاً وظلا
يجوبُ الفيافي كنهريْ حنين
أسميكَ ورداً ................ " ص7
أو كقولِها في المفتتح الثاني :
" ....................
أفتحُ باباً في عتمةِ عينيك
فأرى مدُُناً
..............
وأنا طائر
............." ص 9
أقولُ : ربما بدا هذا طبيعياً ومُتَّسِقاً لافتتاحيةِ القصيدِ عندَها لكننا سنلاحظُ أن قصيدتَها الأخيرةَ " خاتمة " شيئاً آخر :
" في العامِ الماضي
كنا اثنين
وكان لنا ظلٌ واحد
صرتُ وحيداً
تتبعني بقايا ظلين " ص 89
فهي تنطلق هنا من حالة الجماعية والتي جاء التعبيرُ عنها وكأنها الحالةُ الطبيعيةُ - في العام الماضي كنا اثنين – وغير الطبيعي تماما بالنسبة لها أن تصبحَ وحيدة أو وحيداً كما قالت ( لنلاحظ استخدام وحيداً بدلا من وحيدة ) الأمر الذي يفسرُ تواضعَ الأنا عند الشاعرة واشتعالَها واحتراقَها مع الآخر دائما وهو ما يتناقضُ مع كثيرٍ من النصوص الشعرية الأخرى المطروحة على الساحة والتي تظهر فيها " الأنا " الشعريةُ عاليةً ومدوية ....
تخلتْ الشاعرةُ في ديوانِها ذاك عن ملمحين بارزين كان من الطبيعي ومن المتوقع وجودهما ، الملمح الأول هو ملمح المرأة الأنثى بعذاباته وبوحه وفضفضته وقُلنا إنها لجأت كثيراً إلى تذكير بعض المفردات بدلاً من تأنيثِها الطبيعي لكونها " شاعرةً " وليست " شاعراً " ، والملمح الآخر هو حرصها على اخفاء الأنا الشعرية واستخدام ضمير الجمع أو ناء الفاعلين أو نون المضارعة بدلا من تاء الفاعل المتكلم أو ضمير الملكية المفرد ، وربما يرجع هذا في تصورنا إلى رغبتها والحاحها في أن تتماهى مع الآخر ليستشعرَ اشتعالَها وحريقَها .
( أما قبل ) :
فإن هذه القراءةَ لا تزعمُ أنها استطاعت سَبْرَ أغوارِ تجربةِ الشاعرة تقى المرسي كاملةً في ديوانها " معراج لسماء تحترق " كما أنها اكتفتْ- أي القراءة - بالاشارة والتلميح دون أن تصادرَ على أي قراءة أخرى ، وإنْ كنتُ أعتقدُ جازماً أن هناك ملامحَ ومناطقَ وجمالياتِ أُخر يمكن لغيرنا أن يسلطَ الضوءَ عليها .