صحيح أن الأزمة المالية التي حلت باوروبا وأميركا عام 2008 هي بالأساس أزمة ادارة مالية وادارة بنكية، وصحيح أيضا أن عجز الموازنة الاميركية هو الذي تسبب في أزمة المديونية الراهنة لدى الخزانة الاميركية وصحيح أيضا أن منطقة اليورو عموما كانت بحاجة الى مرحلة تنضيج اقتصادي يقلل التفاوت الاقتصادي بين الدول الأعضاء ويوحد السياسات المالية قبل أن يفرض عملة اوروبية واحدة، كل هذه الظواهر صحيحة لكنها في الحقيقة هي نتيجة وليست سببا، فالسبب الحقيقي هو اما أن منسوب الاستهلاك فاق معدلات القدرة على الشراء وبالتالي أحدث ما يسمى بالادخار السالب، أو أن منسوب الاستهلاك تعثر وبات غير قادر على أن يشكل الطلب الفعال الحقيقي القادر على ملاقات قوة تدفق العرض والانتاج بحيث اتسعت الهوة بين العرض والطلب مما أربك الأسواق المحلية والدولية وأربك بالتالي جهاز الأثمان العالمي وفرض حالة من النتوءات في الأسعار لبعض السلع من هنا أو هناك بينما أبقى الجسم الرئيسي للسلع في حالة هي أقرب الى التراخي والجمود.
ولهذا السبب فلم يك غريبا أن يتم التركيز في كلمة مندوب الولايات المتحدة في مؤتمر ابيك بأن تقوم الدول الآسيوية بالعمل على تحفيز الاستهلاك لديها أي بمعنى رفع سوية الطلب الفعال، فقد كان والى عهد قريب ولا يزال هناك اقرار بان الاستثمار هو مفتاح التنمية وهي الاداة الأهم في كسر حلقة الفقر الخبيثة، غير أن هذه المقولة أصبحت غير مكتملة ولا بد من أن تلازمها حقيقة أن أهمية الاستثمار لا بد وأن تنبع من أهمية الاستهلاك وأن تراجع الاستهلاك عن أن يواكب الاستثمار يعكس في النهاية خللا هيكليا، وهنا يتدخل الأدب الاقتصادي ليقول ان الذي يحدث هذا الخلل بين الاستهلاك والاستثمار هو سوء توزيع مكاسب التنمية بحيث تتسع مساحات من هم غير قادرين على أن يمتلكوا القوة الشرائية اللازمة لزيادة الاستهلاك وخلق الطلب الفعال.
هذا المشهد الاقتصادي التحليلي لواقع الاقتصاد العالمي برمته يؤشر الى ضرورة أن يتجه العالم الى التعاون الاقتصادي بدل المنافسة والاحتكارات الدولية ويحضرني هنا مقال نشر في احدى الصحف البريطانية في عقد التسعينات من القرن الماضي وهو أن كل جنيه استرليني تدفعه بريطانيا كمساعدة الى ما وراء البحار يعود بثلاثة جنيهات على الاقتصاد البريطاني.
فالانفتاح والمنافسة الاقتصادية مهمة غير أن وجود خط مواز لهذا كله يتمثل في تعميق وتوسيع التعاون الدولي هو صمام الأمان في أن يبقى التناغم بين الاستهلاك والاستثمار قائما مثلما أن محاولة توزيع مكاسب التنمية بشكل أكثر شمولية يشكل أساس التوازن الداخلي للاقتصاد الوطني.
المقالة لصاحبها
محمد مثقال عصفور جرية الرأى
نقلها الشريف