ما أشبه الليلة بالبارحة فبعد أن كانت الديون السيادية في الاتحاد الأوروبي تشكل خطرا كبيرا على الاقتصاد العالمي، هبت علينا تصريحات أثارت المخاوف مجددا في الأسواق العالمية جاءت على لسان الرئيس الأمريكي أوباما بعد مفاوضاته مع أعضاء الكونجرس حول رفع سقف الدين الأمريكي حتى تتمكن الحكومة من دفع الديون المستحقة عليها، ولكن التعارض السياسي بين الديمقراطيين والجمهوريين، قد كشف عن سيناريو محتمل لانهيار الدولار الأمريكي العملة الإستراتيجية الأولى في العالم، وذلك إذا لم يتم الموافقة على خطة أوباما أو الاتفاق على خطة بديلة تساعد الدولار للخروج من النفق المظلم الذي علق به، هذا وقد تضاربت الأقوال والآراء حول مستقبل الدولار، هل حانت ساعة منيته، أم أنها كبوة أصابته وسوف يخرج منها أقوى من سابقه، في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات التحذيرات من تهاوي الدولار وقربه على الانهيار لاعتبار البعض أن عملية رفع سقف الدين ما هي إلا مسكن سرعان ما يزول تأثيره وتستيقظ الولايات المتحدة على كارثة بكل المقاييس، فهل من الممكن أن يحدث هذا؟، هذا ما سوف فهمه خلال هذه الدراسة.
من المعلوم أن الدولار الأمريكي يشكل ثلثي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم و 80% من مبادلات سعر الصرف الأجنبي، في الوقت الذي يتم دفع أكثر من 50% من صادرات العالم بالدولار، كما أن حجم التعاملات بالدولار في أسواق المال العالمية تصل إلى 3.5 تريليون دولار، ولشدة تغلغل الدولار في الاقتصاد العالمي فإن أي تذبذب واضطراب في سعر الدولار يؤثر بشكل مباشر على أسعار السلع والخدمات على المستوى العالمي كما يؤثر أيضا في تعاملات النفط وإيراداته التي يعتمد عليها أغلب الدول المصدرة له، كما يؤثر على تقييم العملات الأخرى مقابل الدولار، وهو ما حدث بعد انخفاض سعر صرف الدولار عام 2007 مقارنة بعام 1999 بنسبة 22.7% مقابل اليورو ، و 19.1% مقابل الإسترليني.
بداية مشكلة الديون
إن الوضع السيئ الذي تمر به الولايات المتحدة لم يحدث فجأة بين عشية وضحاها، ولكنه جاء على فترات، حيث أنه لما كانت الولايات المتحدة تستمد نفوذها السياسي والعسكري من قوتها الاقتصادية فقد تحول الدولار بعد الحرب العالمية الثانية إلى عملة احتياط بدلا من الذهب وهو ما فتح الباب على مصراعيه لتحقيق ثروات طائلة من طباعة الدولار دون الاستناد إلى أداء الاقتصاد الحقيقي، وقد دأبت الحكومة الأمريكية خلال العقود الماضية على الاقتراض لسد العجز في ميزانياتها بسبب التوسع في الحروب وذلك عن طريق إصدار سندات حكومية بالدولار ثم بيعها للمستثمرين الأجانب والمحليين مقابل فائدة سنوية، وقد شهدت هذه السندات إقبالا كبيرا من المستثمرين لاعتبارها ملاذا ءامنا لرؤوس الأموال بصفتها سندات حاصلة على أعلى تصنيفات المؤسسات المالية العالمية (AAA) ولكن تسببت هذه السندات في النهاية إلى تفاقم العجز في الموازنة خصوصا مع اندلاع الأزمة المالية العالمية.
وجدير بالذكر أن عجز الموازنة في عهد الرئيس بوش الأب المنتمي للحزب الجمهوري كان يبلغ وقتها حوالي 300 مليار دولار في الوقت الذي كان يبلغ فيه الدين العام حوالي 3.66 تريليون دولار، بنسبة تغطية سنوية وصلت قيمتها إلى 286 مليار دولار، ومع تولي الرئيس كلينتون استطاع أن يحول هذا العجز إلى فائض سنوي بلغ وقتها إلى 300 مليار دولار خلال 2001 كما تباطأ الدين العام وكان بمقدور الولايات المتحدة أن تستغل هذا الفائض في القضاء على هذه الديون تماما ولكنها لم تفعل.
ومع تولي بوش الإبن رئاسة الولايات المتحدة تفاقمت المشكلة بشكل كبير حيث عاد الفائض الذي حققه كلينتون إلى عجز سنوي ضخم وصل إلى 12 تريليون دولار في آخر فترة ولايته، نتيجة للإنفاق على الحروب التي شنتها على أفغانستان والعراق، في الوقت الذي قام فيه بوش الإبن بتخفيض الضرائب على الأثرياء.
وجاء أوباما ليتولى رئاسة الولايات المتحدة وهي تعاني أزمة مالية واقتصادية كبيرة نتيجة فساد الرأسماليين فقام بضخ أموال طائلة في السوق في محاولة منه لإنقاذ الاقتصاد من الكساد الذي علق فيه خلال 2008 ولكن هذه الخطط كلها باءت بالفشل الذريع وقد استمرت على إثر هذه الأزمة ارتفاع معدلات العجز في الموازنة وتزايد نمو الدين العام حيث ارتفعت إلى 871 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من السنة المالية الحالية بنهاية إبريل 2011 وسجل الإنفاق الحكومي 2.180 تريليون دولار، ليصل إجمالي الديون مؤخرا إلى 14.3 تريليون دولار.
أسباب انخفاض قيمة الدولار؟
كانت الأمور تسير على ما يرام في فترة التسعينيات في الولايات المتحدة حيث كانت الاستثمارات مرتفعة في الصناعات التصديرية، والتي كان يتم تمويلها بواسطة رؤوس أموال أجنبية وهو ما ساعد على توافر إيرادات لخدمة الديون الخارجية، إلا أن هذه الاستثمارات قد شهدت تعثرا كبيرا في الآونة الأخيرة وشهد القطاع الصناعي الأمريكي انخفاضا حادا.
شهد الاقتصاد الأمريكي انكماشا حادا في أدائه بسبب أزمة الرهونات العقارية التي كونت فقاعة مالية في الاقتصاد وصلت إلى حوالي 3 تريليون دولار تقريبا ليس لهم أصل في السوق، وقد أدت هذه الأزمة إلى تضرر كافة قطاعات الاقتصاد الأمريكي ونجم عنها ارتفاع معدلات البطالة وقلة الإنفاق في الاقتصاد، في الوقت الذي تشهد فيه معدلات التضخم ارتفاعات قياسية وهو ما قاد الاتحاد النقدي الفدرالي لتخفيض سعر الفائدة على الدولار لتقترب من مستويات الصفر، وما أدراك من هبوط سعر صرف الدولار وتأثيره على الاقتصاد العالمي فمن سلبيات تخفيض سعر الصرف هو تآكل الاحتياطات النقدية للدول التي تجعل من الدولار احتياطي نقدي رئيسي لها، حيث أن هبوط سعر الصرف بنسبة معينة يعني خسارة مالية بنفس النسبة.
ومن الأسباب أيضا التي أدت إلى تدهور الدولار هو احتلال أمريكا للعراق والتي كانت تتوهم بأن هذا الاحتلال سوف يؤدي إلى تحسين الوضع التجاري لها ولكن هذه الحرب أدت إلى مشكلة مالية خطيرة إذ لم تستطع الشركات الأمريكية السيطرة على نفط العراق ومشاريع ما يعرف بإعادة الإعمار بالطريقة المخطط لها، وبالعكس أصبحت الإدارة تطالب بالمزيد من الاعتمادات الإضافية لتمويل نفقات الحرب.
كثرة الاستهلاك أيضا كانت من أهم أسباب انخفاض قيمة الدولار وذلك لأن الأمريكيون يستوردون سلعا للاستهلاك المحلي أكثر بأضعاف مما يصدرون حيث تشهد الولايات المتحدة تراجعا كبيرا في قدرة الجهاز الإنتاجي على تلبية الحاجات الاستهلاكية.
ضعف الإنتاج أيضا كان من الأسباب المؤثرة على قيمة الدولار حيث لم تعد الصناعة تشكل أكثر من 21% من الناتج المحلي الإجمالي، في الوقت الذي تراجعت فيه العمالة في هذا القطاع من 11% من العمالة الكلية عام 1996 إلى 8% عام 2006، كما سجلت معدلات البطالة في 2011 إلى 9.2%، وبات الاقتصادي الأمريكي يرتكز على الخدمات في حين لا تحرز الصناعة الأمريكية أي تقدم ملموس باستثناء قطاع تقنية المعلومات، وهو ما أدى في النهاية إلى ضخامة الديون الرسمية والفردية والعجز المالي إلى تباطؤ النمو فيتدهور سعر صرف الدولار.
عجز الميزان التجاري هو مشكلة كبيرة تواجه الولايات المتحدة وقد سجل عجز الميزان التجاري في أمريكا 1.5 مليار دولار يوميا لأول مرة منذ أكثر من 30 عاما، وإذا كان معدل النمو الحالي 3.5% مقبولاً فإنه سوف يتراجع بفعل تردي الوضع المالي وتدهور الإنتاج السلعي، وهو ما أدى في النهاية إلى انخفاض قيمة الدولار.
هل اقترب الانهيار؟
اتفقت أراء معظم خبراء الاقتصاد على المستوى العالمي على أن الدولار الأمريكي في طريقه للانهيار أو عند أحسن الأحوال فإنه سوف يفقد قيمته كعملة احتياطي نقدي استراتيجي على مستوى العالم لأول مرة منذ 1971بعد استبداله بالذهب كاحتياطي نقدي، ليصبح العملة المجمع عليها في تسعير والاتجار في النفط وبقية السلع الأمر الذي أعطى الولايات المتحدة الأمريكية ميزة اقتصادية كبرى مكنتها من تبادل البضائع والخدمات مع بقية دول العالم دون مقابل تقريبا سوى أنه تقوم بطباعة المزيد من الورق الأخضر.
فكما سبق أن قلنا أن هناك اتفاق بين خبراء الاقتصاد على انهيار الدولار، إلا أن هناك اختلاف في شيء واحد فقط وهو الإطار الزمني المتوقع لهذا الانهيار، فالبعض يراه قد أوشك على الحدوث بشكل كبير جدا خصوصا لما تشهده الولايات المتحدة من حالات العجز المالي الكبير والتي أفصحت عنها الأرقام بأنها قد سجلت 14.3 مليار دولار، في حين أشار البعض بأن قيمة العجز الحقيقي والغير معلن قد تجاوز حاجز الـ 20 تريليون دولار وهو ما يساوي عشرات أضعاف الميزانية السنوية للولايات المتحدة، إلى جانب إنهاك الاقتصاد الأمريكي في الحروب وهو ما يسهم في اقتراب نهاية الدولار.
ومزيدا من المؤشرات التي تؤكد اقتراب نهاية الدولار، هو التحذير الذي نشرته وكالة رويترز في يونيو 2011 على لسان الأمم المتحدة والتي حذرت فيه من أزمة ثقة محتملة بالدولار وربما تؤدي إلى انهياره إذا واصلت قيمته الهبوط أمام العملات الأخرى نتيجة تراجع الاحتفاظ بالدولار وقت أشارت الأمم المتحدة في تقرير سابق لها إلى أن سعر صرف الدولار قد وصل إلى أدنى مستوى له منذ سبعينيات القرن الماضي، ويذكر أنه في أكتوبر 2009 أعلنت الأمم المتحدة في اجتماع البنك الدولي في تركيا قولها بأنه على العالم أن يتبنى عملة جديدة لتصبح عملة الاحتياطي الإستراتيجي العالمي بدلا من الدولار الذي أتاح للولايات المتحدة مزية تراكم عجز تجاري هائل.
ومن جانب آخر فقد قام البنك الدولي في مطلع 2011 بإصدار أول سندات مقومة باليون الصيني بغرض جمع 500 مليون يوان بما يوازي 76 مليون دولار، وذلك في محاولة لتشجيع استخدام العملة الصيني في الأسواق العالمية، وهو ما يعد مؤشر قوي على قرب انهيار الدولار حيث اعتبر البعض أن هذا الإجراء من قبل البنك الدولي يعد بمثابة العد التنازلي لنهاية الدولار كعملة رئيسية.
أيضا في مقالة كتبها الكاتب البريطاني روبرت فيسك بعنوان نهاية الدولار، والتي استند فيها على مصادر جاء منها أن دول مجلس التعاون الخليجي قد أجرت عددا من المباحثات السرية مع روسيا والصين واليابان وفرنسا لاستخدام سلة عملات مكونة من الين واليوان واليورو وربما الدولار الكندي والفرنك السويسري بدلا من الدولار في تسعير النفط، كما توقع الكاتب انهيار الدولار في مطلع 2018، وإن كان آخرون يرون أن الانهيار سوف يحدث قبل ذلك بكثير مستدلين بذلك بأن موضوع استبدال الدولار كعملة احتياط نقدي عالمي أصبح يناقش علنا في اجتماعات الدول الثماني الكبرى ومجموعة العشرين الاقتصادية
ومن بين أهم الأسباب المؤدية إلى انفضاض الاقتصاديات العالمية من حول الدولار والبحث عن عملة بديلة هو السياسية البربرية التي تنتهجها الولايات المتحدة ضد العالم الإسلامي بدعوى الحرب ضد الإرهاب التي لا تنتهي، والغريب أن هذه الحروب تمول من خلال قروض تستدينها أمريكا من الدول الآسيوية ودول أخرى، مما أدى إلى نفور كبير من قبل الدول الدائنة من استمرارية دعم أمريكا في هذه الانتهاكات.
وثمة السؤال الجوهري ما هو تأثير انهيار الدولار على الاقتصاد العالمي كونه عملة أكبر اقتصاديات العالم أجمع ، ومما لا شك فيه فإن انهيار الدولار وبالتالي الاقتصاد الأمريكي وربما حتى تمزق الولايات المتحدة الأمريكية إلى كيانات عدة سيكون له تداعياته الدولية بمستويات مختلفة، ومع ذلك فلن يكون لانهيار الاقتصاد الأمريكي ذلك الأثر المدمر على بقية اقتصاديات العالم سوى تلك الدول التي سارت وراء سراب العولمة الاقتصادية فأهملت الاقتصاد الإنتاجي في بلادها واعتمدت بشكل شبه كلي على استهلاك ما تنتجه الدول الأخرى والذي أصبح يتحكم في إنتاجه وتوزيعه ما يسمى بالشركات متعددة الجنسيات.
ومع ازدياد القرائن والدلائل على انهيار الدولار نسوق أيضا هذا الدليل الذي يعتبر من أهم الأسباب التي سوف تؤدي لانهيار الدولار وهو الانخفاض الحاد في القدرة الشرائية للسوق الأمريكية ذاتها والتي كانت تشكل ما قبل الأزمة الاقتصادية على ما يقرب من ربع الاستهلاك العالمي وأصبح المستهلك الأمريكي العادي غارقا في ديون لا قبل له بسدادها وبالتالي لن تعود الطبقة الوسطى الأمريكية كما كانت المستهلك الأكبر على مستوى العالم، ومع انخفاض تدفق البضائع للولايات المتحدة ستنخفض حاجة الحكومات الأجنبية وبنوكها المركزية لاحتياطات كبيرة من الدولار، فإذا ما أضيف إلى ذلك انصراف المستثمرين العرب والدوليين عن الاستثمار في الولايات المتحدة خشية من هذه الصورة القاتمة للاقتصاد الأمريكي تكون قد أحكمت الحلقة حول عنق الدولار وحانت ساعته.
التوغل الصيني في الشرق الأوسط وأفريقيا
اتجهت الصين في السنوات الأخيرة إلى التوغل بشكل كبير في معظم اقتصاديات دول العالم وخصوصا اقتصاديات منطقة الشرق الأوسط، فعلى الرغم من أن الصين ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم والذي تستورد معظمه من منطقة الشرق الأوسط، إلا أنها سعت بكل الأشكال للتوغل بمنتجاتها في المنطقة لتتجنب المخاطر في حالة انهيار الدولار، وذلك لتوقع الصين من أن انخفاض الدولار سوف يجر عليها كثير من المخاطر أولها انخفاض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، ولتفادي هذه المشكلة كانت الصين دائما ما تقوم بدعم الدولار الأمريكي عن طريق شراء السندات الأمريكية بهدف الحفاظ على أسعار الصرف الحالية بين الدولار واليوان الصيني التي ترتكز عليها الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
ومن جانب آخر فقد قامت الصين أيضا بتطبيق بدائل أخرى كان منها توقيع اتفاقيات تبادل العملة مع روسيا وعدد من دول آسيا وأمريكا اللاتينية بغرض تسوية معاملات التجارة مع تلك الدول بعملات أخرى محلية وغير محلية بدلا من الاقتصار على الدولار.
وفي هذه المرة لم يقتصر التنافس فقط على خيرات الشرق الأوسط فحسب بل امتد هذه المرة إلى قارة أفريقيا حيث شهد التنافس في السنوات الأخيرة مبلغا كبيرا بين الشركات الصينية والشركات الأمريكية، حيث تقدمت شركة CNOOC الصينية بعرض بقيمة 4 مليار يورو بغرض شراء حقل بترول في جمهورية غانا، كما قامت الصين بوضع 7 مليار دولار من صندوقها الخاص بالاستثمارات الدولي في شركة سينوبك النفطية العملاقة لأجل أن تدير هذه الشركة مع صندوق النقد الدولي مؤسسات لتنمية البنية التحتية ومشاريع التعدين والطاقة في غينيا الذي يعتبر أكبر بلد في العالم يتملك احتياطي مادة البوكسيت، إلى جانب كميات كبيرة من الذهب والماس واليورانيوم وخام الحديد.
وفي النهاية ومع فشل الحكومة الأمريكية في التوصل لخطة لإنقاذ الدولار في التنامي المتواصل في ارتفاع عجز الحساب الجاري للولايات المتحدة فإن فناء الدولار سوف يصبح أمرا يقينيا وذلك لأن العائدات على الأصول المستثمرين سوف تشهد انخفاضا حادا وعليه فسوف يدرك جميع حملة السندات المالية المقومة بالدولار أن عليهم الابتعاد عن المجازفة القائمة بالتعرض لانهيار كبير في قيمة الدولار، في الوقت الذي لا يوجد ما يوازي هذه المخاطرة، وبمجرد اتجاه أصحاب المحافظ الاستثمارية إلى بيع سنداتهم المالية سنجد في أعقاب هذا مباشرة بيعا جماعيا، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار أسواق المال العالمية وإطلاق ثاني أكبر أزمة عالمية في القرن الواحد والعشرين بعد أزمة الرهن العقاري.
ماذا سيحدث للاقتصاد العالمي لو انهار الدولار؟
في البداية لابد أن نوضح أن هناك مؤشرات واضحة على سرعة انهيار الدولار منها على سبيل المثال تساقطه المتسارع أمام العملات الرئيسية كلما حدث ما يؤدي إلى ارتفاعه هبوطه.
وفي حالة انهيار الدولار بشكل مفاجئ فإن ذلك سوف يؤدي إلى حدوث اضطراب كبير في الاقتصاديات العالمية وهو ما قد يضطر المستثمرين إلى اللجوء إلى عملة أخرى لتحل محل الدولار، وفي الوقت الذي يعاني فيه الاتحاد الأوروبي من مشاكل الديون السيادية شأنه شأن الولايات المتحدة لذا فإن ذلك سوف يضعف من فرصة اليورو في أن يحل محل الدولار كعملة الاحتياط النقدي الرئيسية في العالم، ولكن تشير التوقعات أن يتجه العالم إلى اليوان الصيني بسبب قوة أداء الاقتصاد الصيني حيث يشكل حوالي ثلث نمو الاقتصاد العالمي وإن كان يرى البعض أن الصين غير مؤهلة حتى الآن لتحل محل الولايات المتحدة ، كما ستشهد هذه الفترة اتجاه المستثمرين إلى شراء السلع والبضائع والذهب والفضة وسينخفض الطلب على سندات الخزينة وهو ما سوف يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع أسعار الواردات بشكل كبير جدا.
على مستوى الولايات المتحدة فإن انهيار الدولار سيعمل على تخفيض أسعار التصدير لهذه الدولة لكن ذلك لن يحدث في ظل انتشار المخاوف وارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة العالمية التي سوف تعمل على إعاقة أية احتمالات لتعافي الاقتصاد، ويعيق أي نمو محتمل في قطاع الأعمال الأمريكي، كما أن معدلات البطالة سوف تشهد ارتفاعات قياسية مما سيعمق حدة الأزمة ويؤدي إلى الكساد العالمي وهو أقصى مراحل الدمار الاقتصادي، وننتهي في النهاية إلى حدوث اضطراب في أسواق المال العالمية واضطرارها إلى تغيير نظامها المالي الذي كان يعتمد على الدولار كأساس.
إن انهيار الدولار وانعدام الثقة به سوف يدفع أسعار الذهب لتحقق أرقام قياسية قد تصل إلى ما يساوي قيمة 3000 من الدولارات لأنه في هذه الحالة سوف يعتبر الملاذ الآمن الأوحد للمستثمرين، وهذا الأمر ينطبق على سلع كثيرة أخرى سترتفع أسعارها على إثر انهيار الدولار.
من المحتمل في حالة انهيار قيمة الدولار أن تتجه دول محورية مثل الصين وروسيا والبرازيل والهند لتأسيس نظام مالي عالمي جديد، يمكنّهم من طرح عملة جديدة لتأخذ دور عملة الاحتياط بدلا من الدولار الذي تستخدمه هذه الدول ودول كثيرة أخرى كوسيلة تبادل تجارية وكعملة احتياط في بنوكها المركزية.
من المتوقع أن تشهد اقتصاديات شرق آسيا نموا كبيرا على هامش انهيار الدولار بقيادة الصين والهند بالإضافة إلى نمو كبير في دول أخرى مثل البرازيل وروسيا، وستتحول الصين إلى لاعب أساسي في الاقتصاد العالمي يمهد الطريق لها لتكون على قمة الاقتصاد العالمي من ناحية الحجم، كما أن نمو دول مثل الصين والهند وزيادة الدخل لشعوبها سوف يؤدي إلى ارتفاع استهلاك النفط، وهي الزيادة التي يصعب احتوائها بالأسعار الحالية حيث تباطأت اكتشافات حقول جديدة للنفط، وهو ما سوف ينتج عنه ارتفاع كبير أسعار النفط وربما يصل إلى ما يعادل 200 دولار للبرميل، أو بالأحرى حدوث ارتفاع كبير جدا في أسعار النفط، وهو ما قد أشارت إليه توقعات مؤسسة ميريل لينش في وقت سابق من أن أسعار النفط من المحتمل أن تصل إلى 175 دولار/للبرميل في عام 2012.
مع انهيار الدولار تشير التوقعات أن النفوذ الأمريكي سوف ينحسر بشكل كبير خصوصا مع ظهور تكتل اقتصادي أسيوي جديد بقيادة الصين وبذلك يصبح من المستحيل أن تتحكم دولة واحدة بالقرار السياسي أو العسكري العالمي.
ومع أن الكثير من خبراء الاقتصاد يرجحون أن يتوصل أعضاء الكونجرس إلى اتفاق لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي ولتفي بالتزاماتها ولتتمكن كذلك من سداد السندات مستحقة السداد في مواعيدها، إلا أن ما يجزم به جميع خبراء الاقتصاد دون استثناء هو أن رفع سقف الاقتراض ليس حلا لما يعانيه الاقتصاد الأمريكي بل ليس سوى ترحيل للمشكلة والتي سيأتي اليوم الذي ستتوقف فيه الحكومة الأمريكية حتما عن سداد دينها مضطرة وستقع حينها الكارثة التي ستعصف بجميع الاقتصاديات الرأسمالية ومن يرتبط بها، وهذا الرأي يتفق مع الأوضاع التي يشهدها الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي وهو استمرار مشكلة أزمة الديون في اليونان وامتدادها لتشمل أسبانيا وإيطاليا وإيرلندا، على الرغم من تقديم البنك الدولي والبنك المركزي الأوروبي مساعدات وخطط إنقاذ للدول المتعثرة إلا أنها باءت بالفشل.
وجهة نظر أخرى
إن قيمة عملة أي بلد تتحدد من خلال قوتها الشرائية، وسواء هبطت قيمة الدولار تدريجيا بفعل العوامل الاقتصادية أو تم تخفيضها بقرار سياسي فإن هذا التراجع لا يشكل مشكلة للمسئولين الأمريكيين بل على العكس تماما بل يرى البعض أن انخفاض قيمة الدولار سوف يساعد الاقتصاد الأمريكي على التعافي بشكل أسرع، وأنه إذا توصلت الحكومة الأمريكية إلى خطة لحل مشكلة الديون فإنه بذلك تكون الخطورة قد انحسرت تماما بشأن الدولار.
ومن جانب آخر يرى بعض المحللين الاقتصاديين أن الولايات المتحدة تتعمد خفض سعر الدولار أمام العملات حتى تكون الصادرات الأمريكية أرخص في الأسواق الدولية، لتقليل العجز في موازنة الولايات المتحدة نتيجة زيادة الواردات عن الصادرات، ومساعدة مجلس الاحتياطي النقدي الفدرالي في استيعاب أزمة القروض العقارية عالية المخاطر التي لم يستطع استيعابها حتى الآن، كما يؤدي خفض سعر الدولار إلى ارتفاع معدلات أسعار الفائدة، وإبطاء نمو الطلب الداخلي، وتعديل ادخار القطاع الخاص.
واستنادا إلى بعض الدلائل التي تؤكد أن أمر انهيار الدولار يعتبر أمرا مستبعدا بشكل كبير من وجهة نظر الآخرين، تجدر هنا الإشارة إلى أن ضعف الدولار قد شكل في كثير من الأحيان إنقاذا للشركات الأمريكية التي لها أعمال عبر البحار حيث زادت نشاطاتها بسرعة بشكل فاق أعمال وحداتها المحلية، كما ساعد في ارتفاع الأسهم الأمريكية إلى مستويات قياسية رغم تباطؤ النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة.
إلا أن المخاوف التي تجول بخاطر أصحاب فكرة استبعاد انهيار الدولار تأتي من أن يشهد الدولار انخفاض كبير بصورة مفاجئة، وحينها تتجه البنوك المركزية في العالم إلى بيع موجوداتها بالدولار حفاظا على قيمة الاحتياطيات الرسمية، كما ستتحول رؤوس الأموال من الولايات المتحدة بشكل سريع، وستنخفض بشدة جميع الأسهم المحررة بالدولار ويتجه عدد كبير من الشركات إلى الإفلاس فتحدث الأزمة.
جدير بالذكر أنه مهما حاولت أمريكا تقنين طريقة تقييم سعر صرف الدولار فإن بعض الشركاء التجاريين لها مثل الصين واليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا والتي تعتمد على التصدير لأمريكا، تحاول إبطال مفعول هذه الخطط من خلال شراء سندات أمريكية. وبمعنى آخر تستثمر هذه الدول بعض فوائضها التجارية في أصول بالدولار بدلاً من تحويل كل قيمة صادراتها إلى عملاتها المحلية.
أيضا من المعلوم أن الاقتصاد الصيني والياباني واقتصاديات دول شرق آسيا تعتمد بشكل شبه أساسي على التصدير، لذا فمن مصلحة هذه الدول أن تبقي قيمة الدولار مرتفعة نسبيا مقابل عملاتهم المحلية، كما أن البنوك المركزية لهذه الدول لديها احتياطي من الدولار ما يقرب حوالي 2 تريليون، في الوقت الذي يشوب الصين مخاوف كبيرة من احتمال تعرضها لخسائر فادحة في سنداتها المالية المصدرة بالدولار، وهو ما يشير أن الصين سوف تدعم دائما الدولار للحفاظ على صادراتها خصوصا إلى أمريكا التي تعتبر من أهم الأسواق لها، في الوقت الذي تسعى فيه الصين دائما إلى الإبقاء على معدلات العمالة عند مستويات مرتفعة حتى لا ترتفع معدلات البطالة وتنتشر حالات الاضطرابات والمظاهرات وهو ما سوف يهدد في النهاية اقتصاد الصين.
ولكن من ناحية أخرى فإنه في حالة توقع المضاربون بأن هناك أرباح قريبة مؤكدة ناتجة عن هبوط مستمر في قيمة الدولار فإنهم سوف يتجهون إلى عمليات البيع بشكل مكثف، وفي هذه الحالة لن تتمكن البنوك الأسيوية من الإبقاء على قيمة الدولار مرتفعة، ولا يستطيع سوى بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يحقق هذا وليس من المرجح على الإطلاق أن يضحي بنك الاحتياطي الفيدرالي بوظائف العاملين الأميركيين في سبيل الحفاظ على قوة الدولار.
مع كل ما سبق، فقد يكون هبوط الدولار غير حاد سواء كان هذا في مدة قصيرة أو طويلة، ومثال ذلك ما حدث خلال الدورة الكبرى الأخيرة للدولار، بين عامي 1985 و 1987، حيث هبط الدولار وقتها بنسبة 40% من قيمته دون أن يؤدي هذا إلى هلع، أو حالات إفلاس كبرى، أو مطالبة من قِبَل المستثمرين بعائد مجازفة إضافي كبير على الدولار لتعويضهم عن الاحتفاظ بأصول مصدرة بعملة هابطة، لكن القاعدة التاريخية البسيطة تقول إن احتمالات الهبوط السريع الحاد قد تجاوزت الآن 25% وما زالت مستمرة في الصعود.
انهيار الدولار والدول العربية
لقد كان لقرار الرئيس الراحل صدام حسين والذي دعا من خلاله بضرورة استبدال الدولار باليورو في مبيعات النفط نظرة ثاقبة بالمقارنة مع ما يحدث الآن في العالم, وذلك لأنه كان يعتقد أن النفط هو الوحيد الذي يساعد على بقاء الدولار في الأسواق العالمية، وكان بإمكان دول الخليج في هذه المرحلة دعم هذا التوجه والتخلص من سطوة الدولار ونفوذ الولايات المتحدة وطمس الحضارة الأمريكية التي اعتمدت على عملة ورقية عديمة القيمة، ولكن الدول العربية وخصوصا دول الخليج التي تصدت لهذا التوجه الذي كان من شأنه أن يعيد صياغة خريطة العالم من جديد وانضمت الدول العربية ودول الخليج بشكل خاص للتحالف الأمريكي وفتحت فضائها وأراضيها ومياهها للقواعد الأمريكية التي كانت تستهدف خيرات الدول العربية وخصوصا المياه والبترول.
ومع ارتباط عملات الدول العربية بالدولار وخصوصا دول مجلس التعاون الخليجي الست باستثناء الكويت التي توجهت توجها مختلفا في السنوات القليلة الماضية والتي اتخذت سلة من العملات لتربطها مع الدينار بدلا من الدولار وحده، ومن المعلوم أن انهيار قيمة الدولار يؤثر على ضعف العملات المرتبطة به بشكل كبير، في الوقت الذي سوف تتأثر فيه أسعار النفط في حالة انهيار الدولار حيث ذكر محللون أن دول الخليج المصدرة للبترول تخسر بسبب ضعف الدولار حوالي 20 مليار سنويا.
إن غالبية الدول المستوردة للنفط تحتاج إلى الدولار لتسديد قيمة مشترياتها من الوقود، كما أن مصدري النفط بالمقابل يحتفظون باحتياطاتهم النقدية بالدولار ثم يقومون بإعادة استثمارها في الاقتصاد الأمريكي، وأمام هذه المشاكل أصبح من الضروري إعادة النظر في الأنظمة النقدية المتبعة في دول مجلس التعاون الخليجي، إذ لم يعد الدولار يستحق صفة العملة الدولية التي يفترض فيها على الأقل نوع من الاستقرار.
منقول للإفادة