تطور المصارف
يعود تاريخ الأعمال المصرفية إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، تحديداً في العصر البابلي، حيث تم توثيق القيام بالعديد من النشاطات الخاصة بالأعمال المصرفية الموجودة في شريعة حمورابي الذي يعرف بالمشرع الأول في التاريخ. كانت الودائع آنذاك قطيعاً من الماشية، أو محصولاً من الحبوب، أو حتى معادن نفيسة. كما ظهرت أيضاً ظهرت صورة من الأعمال المصرفية في عهد الفراعنة في مصر القديمة، حيث كان يتم الاحتفاظ بالمحاصيل الزراعية في مخازن مركزية، ويتم استخدام أوامر خطية لسحب كمية معينة من الحبوب كوسيلة للدفع، واستمر هذا النظام حتى بعد التعامل بالمعادن الثمينة. الجدير بالذكر أنه تم الاعتماد على المعابد بشكل أساسي للاحتفاظ بالودائع، وذلك بسبب ثقة عامة الناس بالكهنة والعاملين في هذه المعابد، وبالتالي شكلت المعابد مراكز مالية مهمة في العصور القديمة وهو ما يفسر تعرضها للنهب أثناء الحروب في تلك الحقبة من الزمن.
هذا ويعتبر الرومان بحد ذاتهم من المؤسسين المهمين لتاريخ المصارف حيث أخرجوا الأعمال المصرفية من المعابد ونظموها في أبنية منفردة ومميزة. وبعد تسلم يوليوس قيصر لمقاليد الحكم وقيامه بتغييرات في القانون الروماني، أعطى الحق للمصرفيين بمصادرة الأراضي في حال عدم سداد دفعات القروض، حيث شكل ذلك تحولاً كبيراً لطبيعة العلاقة بين الدائن والمدين. بعد انهيار الامبراطورية الرومانية، لم يتبق سوى بعض المؤسسات المصرفية على هيئة بابوية مصرفية، والتي بقيت حتى الحقبة الصليبية ومرحلة فرسان الهيكل. حيث ظهر في ذلك الوقت بعض المقرضين الذين تنافسوا مع الكنيسة والتي غالباً ما نددت بالقروض الربوية.
في تلك الحقبة لاحظت الممالك المختلفة التي سادت أوروبا نقاط القوة في المصارف والفائدة التي يمكن أن تحققها، فبدأت القوى الحاكمة بالاقتراض لمعالجة الفترات العصيبة التي كانت تمر بها تلك الممالك، وغالباً ما كان يتم الاقتراض وفق شروط الملوك مما أدى إلى توفر التمويل السهل لهم. أدى ذلك إلى التبذير الغير ضروري وإلى القيام بالحروب المكلفة والتسابق إلى التسلح مما وضع هؤلاء الملوك في مواجهة ديون هائلة. وفي عام 1557 قام فيليب الثاني ملك اسبانيا بإرهاق مملكته بالديون نتيجة للحروب العديمة الجدوى التي قام بها، مما تسبب في أول إفلاس حكومي في تاريخ العالم ومن ثم تبعه افلاس ثانٍ وثالث ورابع في تعاقب سريع. وذلك بسبب أن 40% من الناتج المحلي الإجمالي كان يوجه نحو خدمة الدين.
برزت المدن الايطالية كالبندقية وجنوى وفلورنسا بقوتها بالأعمال المصرفية، حيث قدمت المصارف الايطالية القروض للأمراء لتمويل الحروب وللتجار الذين يعملون بالتجارة الدولية. تم انشاء أغلب هذه المصارف على شكل مصارف عائلية أكثر من كونها مصارفاُ تجارية، حيث هيمنت عائلتا بيردي وبيروتزي في فلورنسا على النشاط المصرفي في القرن الرابع عشر، وأقاموا فروعاً في العديد من المناطق في أوروبا لتسهيل نشاطهم المصرفي. كما قامت العائلتان بدعم الملك إدوارد الثالث في إنكلترا لتمويل حرب المائة عام ضد فرنسا والتي انتهت بفشله وتعثر هذه المصارف. كما برز في تلك الفترة مصرف ميديشي الذي أسسه جيوفاني ميديشي عام 1397 كواحدٍ من أشهر المصارف في تلك الحقبة، والذي عرف بتاريخه الطويل في العمل المصرفي وتحويل الأموال، كما قام بإقامة العديد من الفروع له في أنحاء أوروبا والتي وصلت إلى لندن، وقدم القروض للأمراء والتجار وأصبح البنك الرئيسي للبابا. هذا وقد عرفت مرحلة المصارف الوسطى استخدام وثائق دفع دولية، والتي تتطلب من المدين توفير العملة المحلية للدائن بملبغ معين ووقت معين، حيث أن الكنيسة كانت تمنع التعامل بالفائدة بشكل مباشر. وبما أن الارتباط بين المصارف والتجارة كان وثيقاً جداً، لجأت المصارف إلى الحصول على الودائع في مدينة ما وتمويل نشاطها في مدينة أخرى وذلك للالتفاف على أوامر الكنيسة والحصول على فائدة بطريقة أخرى.
قام الإنكليز والهولنديين في القرنين السابع والثامن عشر بتطوير تقنيات المصارف الايطالية، حيث تم اعتماد الصيرفة الاحتياطية الجزئية. وينسب الفضل في ذلك إلى الصاغة الانكليز، حيث أنه في منتصف القرن السابع عشر أدت الحروب الأهلية إلى زوال الأعمال التقليدية لصاغة الذهب من صنع للذهب والفضة، مما اضطرهم للبحث عن وسيلة أخرى لكسب العيش وأيضاً بسبب الحاجة لوسائل لتخزين قيمة المعادن الثمينة. فتحولوا إلى قبول ودائع العملات الثمينة لحفظها وإصدار صكوك لإثبات هذه الايداعات. عممت هذه الصكوك كشكل من أشكال المال، ومع مرور الوقت أدرك هؤلاء الصاغة أن المودعين لن يقوموا بالمطالبة بمدخراتهم بوقت واحد مما مكنهم من إصدار المزيد من الصكوك للناس.
آدم سميث والأعمال المصرفية المعاصرة
تمت المباشرة بالأعمال المصرفية في بريطانيا عندما جاء آدم سميث بنظريته اليد الخفية عام 1776، ومع اقتراحه للاقتصاد المنظم ذاتياً الذي مكن مقرضي الأموال والمصرفيين من الحد من تدخل الدولة في القطاع المصرفي والاقتصاد ككل. لقد وجدت حرية السوق الرأسمالية بالإضافة إلى المنافسة المصرفية أرضاً خصبة في العالم الجديد حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت بالظهور.
بعد خمس سنوات من استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، تم إنشاء أول مصرف قانوني في ولاية فيلادلفيا وذلك في عام 1781، وفي عام 1794 كان هنالك أكثر من 17 مصرف. في البداية كان على المصرف الحصول على مرسوم تشريعي للموافقة على إنشائه، لكن في عام 1838 تبنت نيويورك نظاماً حراً للمصارف، والذي يسمح لأيٍ كان بالانخراط بالأعمال المصرفية طالما أنه يتسم ببعض الصفات القانونية. وانتشر ذلك في بقية الولايات، وبدأت تظهر الآثار السلبية لذلك سريعاً حيث قام كل مصرف بإصدار الصكوك الخاصة به مما أدى إلى تعدد الصكوك التي يتم التعامل بها مما جعل الكثير منها يفقد قيمته في حال تعثر المصرف. ومع نشوب الحرب الأهلية جاء التشريع الذي يقضي بوجود نظام قانوني اتحادي لجميع المصارف. سمح هذا التشريع للمصارف الوطنية بإصدار الصكوك وفرض الضرائب عليها.
كما جاءت هذه الصكوك الوطنية مع ضمان فدرالي والذي يحمي حامل الصك في حال تعثر المصرف. وجعل المصارف المحلية تخضع للرقابة الفدرالية. شكل ذلك أساساً للنظام المالي الحالي.
في البداية لم تكن أفكار سميث مفيدة للصناعية المصرفية الأمريكية. وكان متوسط حياة المصرف خمس سنوات، وبعد ذلك تصبح الأوراق الصادرة عن المصارف المتعثرة لا قيمة لها. ويمكن لهذه المصارف التي استأجرتها أو أجرتها الحكومة أن تصدر أوراقاً مصرفية أو شهادات مصرفية مقابل العملات الذهبية والفضية التي تحتفظ بها الحكومة. لقد كان السطو على مصرف يعني أكثر بكثير من ذي قبل مقارنة بهذه الأيام حيث التأمين على الودائع ومؤسسة التأمين على الودائع الفدرالية.
أسس ألكسندر هاملتون وزير الخزانة الأمريكية المصرف الوطني، حيث كانت وظيفته الأساسية قبول الشهادات المصرفية التي تصدرها المصارف المحلية بقيمتها الإسمية، على أن تقوم الأخيرة بإعادة شرائها مرة أخرى ضمن الإطار التشغيلي للسياسة النقدية وبهدف توفير السيولة النقدية للمصارف في الأجل القصير للتغلب على أزمات نقص السيولة وهي ما يعرف بسياسة الريبو (Repurchase Agreement). وتمكن هذا المصرف بعد ذلك من خلق عملة وطنية موحدة، وقام بعد ذلك بفرض الضرائب على المصارف التي لا تخضع للقوانين الحكومية مما دفع المصارف المحلية للمنافسة. تزايدت عدم ثقة الأمريكيين بالمصارف بشكل عام، أدى هذا الشعور إلى خروج ولاية تكساس من قانون العمل المصرفي لتتبعها العديد من الولايات الأخرى، وتم أيقاف العمل بالقانون عام 1904.
المصارف التجارية:
في نهاية القرن الثامن عشر كانت أغلب الأعمال المصرفية كالقروض وتمويلات الشركات تتم عن طريق عدد كبير من المصارف التجارية، وذلك لأن النظام المصرفي الحكومي كان ضعيفا ومتشتتا. خلال تلك الفترة المضطربة والتي استمرت حتى عام 1920 استغلت هذه المصارف التجارية علاقتها وصلاتها الدولية لتشكل قوة مالية وسياسية. كان غولدمان ساكس و كان ولوب وجي بي مورغان و كومباني من أشهر المصارف التي برزت في تلك المرحلة، حيث أنهم اعتمدوا بشكل أساسي على العمولة الكبيرة من مبيعات السندات الأجنبية الأوروبية مع عمولة قليلة من تداول السندات الامريكية في أوروبا، مما سمح لهم بتكوين رؤوس أموال ضخمة.
في ذالك الوقت كان المصرف غير مطالب بالإفصاح عما يملك من احتياطي رأس مال لمواجهة التزاماته كمؤشر لقدرته على البقاء فوق معدل خسارات القروض. هذا يعني أن العملاء غير قادرين على تقييم ملاءة المصرف المالية، وبالتالي فأن سمعة المصرف وتاريخه هي التي تؤخذ بعين الاعتبار عند تقييم المصرف بغض النظر عن أي شيءٍ آخر. بينما ظهرت العديد من المصارف الناشئة واختفت، كانت المصارف التجارية البارزة تقوم ببناء تاريخ طويل لها من الصفقات الناجحة، ومع بدء التطور الصناعي كانت هنالك حاجة ملحة لتوفير كميات ضخمة من رؤوس الأموال يعجز مصرف بمفرده عن توفيرها، مما استدعى معه البدء بإصدار الأسهم والسندات للعموم كطريقة وحيدة لزيادة رأس المال.
عرف الناس في الولايات المتحدة الأمريكية والمستثمرون الأجانب في أوروبا القليل عن الاستثمار وذلك بسبب حقيقة أن الافصاح لم يكن مطلب قانوني. وبناءً على ذلك ساعدت العروض الناجحة من الإصدارات على تحسين سمعة المصارف وزاد الطلب على أوراقها. كما طالبت المصارف بالحصول على موقع في مجلس إدارة الشركات التي تبحث عن رأس مال لتمويل نشاطها، فإن تبين للمصرف أن إدارة الشركة ضعيفة قام المصرف بإدارة الشركة بنفسه.
مورغان ولعبة الاحتكار:
ظهر جي بي مورغان على رأس المصارف التجارية في أواخر القرن الثامن عشر، وكان على اتصال مباشر مع لندن التي شكلت المركز المالي للعالم آنذاك، ومن ثم صار له دور سياسي مهم في الولايات المتحدة الأمريكية. أنشأ مورغان شركة الفولاذ الأمريكي وشركة الاتصال والتلغراف الأمريكية، والحصادات الدولية، وقام بالاحتكار والسيطرة على مجال السكك الحديدية والملاحة البحرية، كل ذلك عبر استغلال الثقة وتجاهل قانون (Sherman anti-trust act) الذي أوجده الكونغرس الأمريكي في عام 1890 لغرض الحد من أي قوة قد تقيد عمل التجارة كعمليات الاحتكار.
على الرغم من أن بداية القرن 1900 شهدت تأسيس جيد للمصارف التجارية إلا أنه كان من الصعب لأغلب الأمريكيين الحصول على القروض من هذه المصارف، حيث أنها لم تقم بالتوسع بمنح الائتمان لعموم الناس، مما أدى لانتشار العنصرية وحدوث انقسامٍ وشرخٍ كبيرٍ بين العملاء، تبع ذلك توقف المصارف عن التعامل بالقروض، حيث استمرت هذه المصارف بالفشل بمعدلات مقلقة.
ذعر عام 1907:
أدت الأزمة المالية التي حدثت في تشرين الأول من عام 1907 إلى خلق حالة ذعرٍ دفعت بالناس لسحب أموالهم من المصارف والاستثمارات التي مولوها، مما سبب هبوطاً حاداً في أسعار الأسهم التي اكتتبوا فيها، وبدون أي مساعدة من الحكومة الأمريكية لتهدئة الناس، قام مصرف جي بي مورغان بإيقاف الذعر عن طريق قوته المعتبرة حيث جمع كبار اللاعبين في وول ستريت في محاولة للمناورة في منح الائتمان كما يفعل المصرف الفدرالي الآن.
من المفارقات، أن السلطة العليا المسؤولة عن إنقاذ الاقتصاد الأمريكي أكدت وضمنت أنه لا يمكن لأي مصرف خاص أن يبسط السلطة. وكان مصرف جي بي مورغان (المصرف الغير محبوب من قبل الكثيرين في أمريكا) واحداً من كبار الرأسماليين على مستوى العالم، مما اضطر بالحكومة إلى اللجوء إليه لقيادة السياسة المالية أثناء الأزمة، حيث أنه كان قادراً على جمع الأطراف الفاعلة ضمن كنفه وذلك لإنقاذ البلاد من انهيار اقتصادي وشيك. وبالفعل قام مصرف جي بي مورغان بإدارة الأزمة بشكل جيد وتمكن الاقتصاد الأمريكي من تجاوز المحنة. إلا أنها أصبحت مدينة له بالفضل، وتمكن بعد ذلك من دفع الحكومة إلى إنشاء المصرف المركزي والاحتياطي الفدرالي في عام 1913.
بعد تأسيس المصرف الفدرالي الذي يمثل القوة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، وجزءً من القوة السياسية، والتي تمركزت في وول ستريت، تمكن الأمريكان من أن يصبحوا مقرضين عالميين في الحرب العالمية الأولى، وحلوا محل لندن التي شكلت المركز المالي للعالم قبل ذلك. كم قامت الحكومة بوضع تقييدات غير ملائمة على القطاع المصرفي، وفرضت بأنه على كل المصارف أن تدفع قروضها الخاصة بالحرب، أي أن تتوسع في منح ائتمانها وتساهم في تمويل الحرب. أثر ذلك سلباً على التجارة العالمية وجعل بعض الدول تعادي البضائع الأمريكية وتقاطعها. وعندما انهار سوق الأسهم في يوم الاثنين الأسود عام 1929 شكلت هذه الضربة القاضية للاقتصاد العالمي. لم يستطع المصرف الفدرالي السيطرة على الانهيار، وكبح جماح الكساد الاقتصادي، الذي كانت له نتائج وآثار لاحقة على كل المصارف. وتم وضع خطوط عريضة للفصل بين عمل المصرف وانخراطه في المشاريع الاستثمارية. في عام 1933 منعت المصارف من المضاربة بالودائع وتم إنشاء هيئة ضمان الودائع لإقناع العموم بأن التوجه للمصارف عملية آمنة، ولكن لا أحد خاطر واستمر الكساد.
أنقذت الحرب العالمية الثانية العمل المصرفي من الدمار الشامل حيث أن اندلاعها أنقذ الاقتصاد العالمي والأمريكي مرة أخرى من الدخول في دوامة. بالنسبة للمصارف والمصرف الفدرالي تطلبت الحرب مليارات الدولارات. كما أدت عمليات التمويل الضخمة هذه لإيجاد شركات ذات احتياجات ائتمانية هائلة، مما حفز المصارف للانخراط لتلبية هذه الاحتياجات. الأهم من ذلك أن المصارف في الولايات المتحدة توصلت أخيراً إلى النقطة التي أوجدت تأمين الودائع والرهن العقاري ومنح الائتمان بطرق مختلفة. لا بد من الإشارة في النهاية إلى أن التطور التكنولوجي الكبير الذي حدث في العقود الأخيرة الماضية أدى إلى تسهيل وظائف المصارف ووصولها لأكبر عدد ممكن من الناس، حيث سهلت وسائل الاتصال الحديثة وشبكات الانترنت التواصل بين العملاء والفروع وبين المصارف المختلفة. مما جعل من المصارف كيانات افتراضية يمكن التعامل معها عن بعد.
الخلاصة:
لقد قطعت المصارف شوطاً طويلاً من مرحلة معابد العصور القديمة حتى وقتنا الحالي، لكن الممارسات التجارية الأساسية لم تتغير جوهرياً. تمنح المصارف الائتمان للناس الذين هم بحاجته بينا تطالبهم بسداد الفوائد على التمويلات التي تعطيها. وعلى الرغم من أن التاريخ غير النقاط الأساسية في نمط الأعمال المصرفية إلا أن غرض المصارف هو صنع القروض وحماية أموال المودعين. ومهما تغيرت وتعددت هذه الوظائف فإن المصارف ستبقى لأداء هذه الوظيفة الأساسية (وظيفة الوساطة المالية).