الاقتصــاد الســوري بعد دخول الأزمة عامها الخامس – تقرير
كما يقول الخبراء الاقتصاديون (الاقتصاد عصب الحياة)، حيث يعكس دائماً الوضع المعيشي لهم، وقد تأثر بشدة بالنزاع الدائر في سوريا، حيث أعادت الحرب التي تشهدها سوريا منذ نحو أربع سنوات عجلة الاقتصاد عقوداً إلى الوراء، وذلك بعدما كان يُصنف اقتصادها في السابق على أنه اقتصاد واعد..
فالاقتصاد السوري قضى ما يزيد عن أربع الأعوام في غرفة الإنعاش، متعرضاً لكافة العمليات الجراحية الاقتصادية الحرجة، بعدما طال سرطان الحرب اللعين كل جسده الاقتصادي؛ فالأزمة لم تخلف فقط أكثر من 190 ألف قتيل، (بحسب تقديرات الأمم المتحدة)، بل تردى خلالها الوضع الاقتصادي، بحيث لا تمكن مقارنة الاقتصاد خلال أربع سنوات من الحرب بأربع سنوات مرت عليه بالزمن الطبيعي.
يذكر أن الاقتصاد السوري قد شهد مرحلة من النمو الحقيقي المستقر في الفترة بين العامين 2006م و2010م، وذلك بمعدل وسطي قدره 5%، وكانت تلك إحدى أعلى نسب النمو المسجلة في إقليم الشرق الأوسط وفقاً لبيانات البنك الدولي.
فقد تعرضت سوريا خلالها لعقوبات وحصار اقتصادي كبير، وشهد الدولار أثناءها ارتفاعات مستمرة، قابلها هبوط واضح في قيمة الليرة السورية، وإرتفاع جنوني في أسعار بعض السلع والمواد، مع فقدان بعضها، وشحها في أحيان أخرى ..
وأهمها المحروقات، وما خلفته من معاناة الأفراد الطويلة معها، فضلاً عن ارتفاع البطالة، وعدم قابلية المؤسسات الاستثمارية الصغيرة والكبيرة على العمل.. إلخ، كل ذلك أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطن السوري.
فنجد أن الاقتصاد السوري قد شهد تحولاً استثنائياً في مؤشراته الكلية جراء الأزمة التي تمر بها البلاد، حيث ألقت هذه الأزمة بظلالها على الموازنة العامة، والاقتصاد الكلي عامة، وضاعفت من حجم الضغوط على شبكة الأمان الاجتماعي، وزادت من أعباء الدعم، ووسعت من نطاقه، على نحو عاد به قريباً من نموذج السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، رغم تغير اتجاهاته الأساسية.
فوفقًا لتقرير للأمم المتحدة فقد خسر الاقتصاد السوري جراء استمرار الأزمة الدائرة منذ ما يزيد عن أربع السنوات 200 مليار دولار حتى نهاية العام الماضي، كما أدت هذه الأزمة إلى ارتفاع نسبة الفقراء لتفوق 80% من مجموع السكان.
الاقتصاد السوري في أربع سنوات.. ماذا حدث؟
نرى أن الأنشطة الاقتصادية مرت بعدة مراحل خلال الأزمة السورية، حيث كانت:
المرحلة الأولى – من النصف الثاني لعام 2011 وحتى نهاية 2012 مرحلة الصدمة للأنشطة الاقتصادية، حتى أن البعض منها وصل إلى درجة الشلل، وانهيار النمو الاقتصادي، هجرة رؤوس الأموال، وسرقة الآليات والمعدات، لاسيما في المناطق الساخنة.
المرحلة الثانية – خلال 2013 محاولة امتصاص الصدمة، والسعي الى النهوض الجزئي، والتحول الى اقتصاد الحرب، بعد أن تبين أن انتهاء الأزمة سيستغرق وقتاً طويلاً، حيث الأولوية هي لتأمين المواد الأساسية كالوقود والغذاء، لذلك بدأت بعض عجلة الأنشطة الاقتصادية بالدوران شيئاً ما، وسط تراجع في نشاط العديد من القطاعات الإنتاجية.
المرحلة الثالثة – خلال 2014 وخاصة النصف الثاني منها ،كان هناك نوع من محاولات السير نحو الأمام، والنهوض الواضح على جميع المستويات، بما فيها التصدير، لكن فقط بنسبة لا تتجاوز بأي حال من الأحوال 30% من الوضع لما قبل الأزمة (وهذا طبعاً ينطبق على المناطق الآمنة).
لذا نستطيع القول أن مراحل الأزمة لم تعد تفرمل العمل الاقتصادي، رغم أن البنية الاقتصادية ضعيفة نتيجة التدمير والخسائر والأضرار، التي سببتها الحرب على الاقتصاد الوطني.
وبعد دخول الأزمة عامها الخامس نرى أن بعضاً من القطاعات الإنتاجية الرئيسية قد بدأت مسيرة التعافي، وفُتحت عدد من القنوات البديلة على مستوى التجارة العامة والخاصة تصديراً واستيراداً، ووسع المجتمع الأهلي من دوره في الحياة الاقتصادية، كما نجحت مؤسساته في بناء شبكة تكافل اجتماعي على امتداد المدن والبلدات، لا نظير لنطاقها في تاريخ سوريا الحديث.
يمكنك الاطلاع على هذا التقرير:- بعيداً عن السياسة.. مبادرات سورية رائدة للدعم المجتمعي والإغاثة.
هذا وتبقى لغة الأرقام (طبقاً للتقارير الأممية) الأكثر تعبيراً عما وصل إليه الوضع السورى
تدهور قيمة العملة الوطنية
ظهرت تجليات هذا الأمر بشكل واضح على الليرة السورية وسعر الصرف، وشهد الدولار أثناءها ارتفاعات مستمرة، قابلها هبوط واضح في قيمة الليرة السورية، كما تم استهلاك أغلب احتياطات النقد الأجنبي الذي كان يبلغ في ربيع 2011م نحو 20 مليار دولار، وتراجعت الإيرادات العامة للدولة، وتوقف تنفيذ اتفاقات التمويل الأجنبية.
وتشير دراسة حديثة صادرة عن معهد (كارني) للسلام أن استمرار الأزمة، وزيادة الطلب على العملات الأجنبية، وظهور آثار الحصار المفروض على سوريا، خفض قيمة الاحتياط النقدي، ودفع بالاقتصاد السوري إلى التآكل بمعدل نصف بليون دولار كل شهر، ويفترَض بهذا التآكل أن يؤدي انهيار الليرة خلال سنة، ولعل هذا يفسر سبب تجنب المصرف المركزي السوري خلال الأسابيع الأخيرة الإبقاء على سعر الليرة مستقراً.
هروب رأس المال السوريّ
يعتبر هروب رؤوس الأموال أحد أسوأ الانعكاسات الاقتصادية للحرب، وهرب ما يقدّر بنحو 22 مليار دولار من رؤوس الأموال للخارج، وانكمش الاقتصاد السوري بما نسبته 30% إلى 40 % في عام 2012، وخروج ما يزيد على 60% من رجال المال والأعمال السوريين للخارج، وتعدّ كلٌّ من تركيا والعراق وألمانيا ومصر من أوائل الدول التي جذبت رؤوس الأموال السورية، وقدّمت التسهيلات الكافية لإنشاء مشاريع استثمارية على أراضيها.
السوريّ في الداخل هو الضحية الأولى
قد زاد الأثر الاقتصادي للأزمة من معاناة الأشخاص، حيث يعيش السوريون في الداخل حياةً يوميةً مثقلةً بالمتاعب، بسبب الأعباء المادية المتزايدة عليهم يومياً، ومع دخول الأزمة عامها الخامس، يعتمد آلاف السوريين في معيشتهم على الحوالات المالية، التي يرسلها إليهم ذووهم في الخارج، حيث تقلصت التحويلات المالية، ومنها تحويلات السوريين العاملين في الخارج البالغة نحو 800 مليون دولار سنوياً.
وقد أفاد تقرير للأمم المتحدة صدر في أكتوبر 2013، أن أكثر من ثلث سكان البلاد قد فروا إلى الدول المجاورة، وأن نصف السكان البالغ عددهم 23 مليون شخص باتوا تحت خط الفقر، منهم 4.4 ملايين يعانون من فقر مدقع، بينما بلغ معدل البطالة 48.6%، فقرابة نصف القوى العاملة عاطلة عن العمل، وتراجعت فرص الوظائف، حيث فقد قرابة مليوني وظيفة، كما انخفضت قدرة سوريا الصناعية.
الزراعة والحقول النفطية
ويمكننا أن نتصور فداحة الضرر الواقع على المجتمع الذي يعتبر 80% منه معتمد على البرامج الزراعية التي تديرها الدولة، وتمثل الزراعة الآن نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وقدرت خسائر القطاع الاقتصادي بنحو مليار دولار أمريكي منذ مارس 2011.
كما أن خارطة الحرب المتغيرة في سوريا، من حيث مناطق النفوذ بين النظام والمعارضة، أضرت بشدة قطاع النفط، الذي يعتبر شريان البلاد الرئيسي من العملة الصعبة، والذي يشكل نصف دخل الدولة السورية، فقد انخفض الإنتاج بنسبة 96%؛ لأن حقول النفط أضحت تحت سيطرة تنظيم داعش الإرهابي المتحكم بثلث الأراضي السورية، ناهيك عما تسيطر عليه المعارضة منذ عام 2011.
نظام التعليم بات فى خطر
كان للأزمة تأثيرها على عرقلة مسيرة التعليم، حيث فقدت العملية التعليمية -ولا تزال- جزءاً مهماً من البنية التحتية ومن مواردها البشرية (مدرسين ومشرفين وطلاب)، بسبب تضرر المدارس، وعمليات النزوح للطلبة والمعلمين على حد سواء.
إضافة إلى القصف العشوائي الوحشي شبه المستمر، الأمر الذي يتطلب العديد من السنين لتعويضهما، حيث توقف نصف إجمالي عدد الأطفال ممن هم في سن الدراسة عن الذهاب إلى المدرسة، كما تم إغلاق العديد من المدارس نتيجة للعنف وعدم الاستقرار، (وذلك بحسب تقرير Save the children، الصادر فى مارس 2015).
وهنا وجب التنوية أن التعطل الشامل للعملية التعليمية، يؤدى الى نتائج كارثية على الموارد البشرية، وبالتالي على العملية التنموية للبلاد برمتها على المدى القصير والمتوسط والطويل.
فبحسب التقارير الأممية، يبلغ عدد الطلاب السوريين في المراحل الثلاثة 5 مليون طالب من الذكور والإناث، ونسبة الطلاب المتضررين كلياً من توقف الدراسة هي 38 % حتى الآن، ونسبة الطلاب المتضررين جزئياً من توقف الدراسة هي 43% حتى الآن (أي 81% متضرر جزئياً أو كلياً)..
فيما يقدر عدد المدارس السورية بـ 22000 مدرسة، تضرر منها أكثر من 3000 مدرسة نتيجة القصف، ويسكن النازحون في حوالي 2000 منها، بينما تراجع الإنفاق على التعليم من 35.4 مليار ليرة سورية عام 2010 إلى 26 مليار ليرة في عام 2011، ليصبح 19.5 مليار في عام 2012.
الدعم الإيراني الروسي
جميع الأرقام تشير إلى أن النظام في سوريا يعيش اليوم على المال الإيراني الروسي، المتمثل في النفط أو في الودائع المالية المباشرة، التي تعتبر العمود الفقري لاقتصاد النظام خلال السنوات الماضية، لكن ومن جانب آخر يقول خبراء اقتصاديون أن فاتورة الحرب السورية قد أنهكت كل من روسيا وإيران خصوصاً مع انخفاض أسعار النفط عالمياً.
إذن ما العمل؟ نرى ضرورة التركيز على الإجراءات التالية
1- العمل بجدية وإخلاص على دعم المبادرات السلمية في الداخل والخارج لحل الأزمة عبر الحلول السياسية، فتوافق السوريين وحده هو الذي يفتح الطريق أمام رحيل المآسي التي أدمت السوريين، وهدمت إنجازاتهم، وهذا ما يمهد الطريق أمام إنهاض الاقتصاد السوري.
2- وقف جميع أنشطة الحكومة وموازناتها المخصصة للقطاعات غير المنتجة والريعية -والتي يمكن تأجيلها- والتي لاتتناسب مع الأوضاع التي تمر بها البلاد.
3- تخصيص موازنات القطاعات غير المنتجة، والإيرادات العامة المتوقعة حصراً لتأمين المساعدات الضرورية للقطاعات المنتجة وخاصة الصناعة والزراعة، وسد احتياجات المواطنين من السلع الأساسية.
4- إخضاع المصرف المركزي لرقابة الحكومة المباشرة، فالسياسات النقدية يجب أن تتماشى مع المعالجات الاقتصادية للأوضاع الراهنة.
5- وقف استيراد جميع السلع، باستثناء المواد الأساسية لمعيشة المواطن ومستلزمات الإنتاج.
6- مكافحة الهدر الحكومي والبذخ والفساد، بجميع أشكالهم وتجلياتهم.
ويبدو جلياً أن معاناة الاقتصاد السوري ستتفاقم خلال مرور الأزمة بعامها الخامس، ومع غياب الآفاق لحلول سياسية (نهائية أو مؤقتة) تنقذ ما بقي من الدولة السورية ومؤسساتها، وتسمح بعودة النشاط الاقتصادي إلى حالته الطبيعية.. إنها كارثة، تعوّد العالم على مشاهدة فصولها بضمير ميت، ومن دون أن يفعل شيئاً..
المصادر: جميع الأرقام والإحصاءات مأخوذة من مصادر متعددة أبرزها:
تقرير الأمم المتحدة بـ “الحرب على التنمية، تأثير المؤشرات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية”، في الفترة من أبريل إلى يونيو من عام 2013.
تقرير Save the children المُعنون بـ “تكلفة الحرب – حساب تأثير انهيار نظام التعليم في سوريا على مستقبل البلاد”، والصادر فى مارس 2015.
تقرير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمركز السوري للبحوث السياسية، وبدعم مهم من الاتحاد الأوروبي.
تقرير إسكوا والصادر فى سبتمبر 2014، تحت عنوان “النزاع في الجمهورية العربية السورية: تداعيات على الاقتصاد الكلي وعقبات في طريق الأهداف الإنمائية للألفية”.
المنتدى الاقتصادي السوري.