في العديد من الأماكن، يُعَد صندوق النقد الدولي هي المنظمة التي يعشق الجميع إعلان كراهيتهم لها. فوفقاً للبعض يلحق صندوق النقد الدولي الضرر بالفقراء، والنساء، والاستقرار الاقتصادي، والبيئة. إن صندوق النقد الدولي مسؤول عن إحداث الأزمات الاقتصادية والتسبب في تفاقم تلك التي يُدعى إلى حلها. ويُقال إن صندوق النقد الدولي يفعل هذا لإنقاذ الرأسماليين والمصرفيين، وليس الناس العاديين.
وعلى الرغم من عدم صحة هذا الاعتقاد فإنه يُحدِث أضراراً هائلة ويحد من أي نفع محتمل ربما يترتب على عمل صندوق النقد الدولي.
فبادئ ذي بدء، ينبغي لنا أن ننظر في الكيفية التي يعامل بها العالم مع أزمات اللاجئين، مثل الأزمة السورية، والطريقة التي يتعامل بها مع الأزمات المالية.
إن مفوض الأمم المتحدة الأعلى لشؤون اللاجئين شخص، وليس مؤسسة. وهو يتولى رئاسة "مكتب" وليس منظمة تامة النضج بمعنى الكلمة. وهذا الضعف هو ما أرغم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على ممارسة الضغوط على شركاءها في الاتحاد الأوروبي لحملهم على تنظيم استجابة أكثر تماسكاً للتدفق المستمر من طالبي اللجوء.
وعلى النقيض من ذلك، يرتكز النظام الذي يستهدف منع الأزمات المالية وحلها إلى مؤسسة تامة النضج: صندوق النقد الدولي. وقد لا يكون ذلك النظام مثاليا، ولكنه سابق بسنوات ضوئية مقارنة بمجالات مثل اللاجئين، أو حقوق الإنسان، أو البيئة.
من السهل أن يُساء فهم العمل الذي يقوم به صندوق النقد الدولي. ذلك أن القسم الأعظم من الجهود التي يبذلها مكرسة لمنع الأزمات. فكما قال فرانكلين د. روزفلت في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، والذي شهد تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، "الأمراض الاقتصادية معدية للغاية. وبالتالي فإن الصحة الاقتصادية في أي دولة مسألة تستحق اهتمام كل الدول المجاورة، القريبة والبعيدة".
ولهذا السبب، اتفقت الدول الحاضرة الأربع والأربعين، والدول المائة والثماني والثمانين التي تنتمي الآن إلى صندوق النقد الدولي، على "التشاور والاتفاق على التغيرات النقدية الدولية التي تؤثر على بعضها البعض... وينبغي لها أن تعين بعضها البعض على التغلب على صعوبات الصرف في الأمد القريب". ومن الناحية العملية، يعبر عن هذا ما يسمى مشاورات المادة الرابعة. والواقع أن مناقشات السياسة الرسمية هذه بين صندوق النقد الدولي والحكومات الأعضاء، والتي تدور سنوياً عادة، يتم تدوينها بالتفصيل ومراجعتها من قِبَل المديرين التنفيذيين في مجلس إدارة الصندوق (والذي يمثل كل الدول المائة والثماني والثمانين)، ثم تنشر لكل من يرغب في الاطلاع عليها على شبكة الإنترنت. وهذا هو مستوى المراقبة الجماعية والشفافية الذي ينبغي للمؤسسات التي تعاجل قضايا أخرى أن تطمح إليه.
لعب صندوق النقد الدولي دوراً أساسياً في تطوير الأدوات التي تستطيع بها البلدان قياس وتقييم وتحسين موقف الاقتصاد الكلي الحالي: السياسة المالية والسياسة النقدية، فضلاً عن الاستقرار المالي واستقرار العملة والأسعار. وهو يساعد البلدان في إيجاد سبل أفضل لتنفيذ تدابير وإجراءات في كل من هذه المجالات، وهو يسعى إلى استخلاص دروس واسعة من تجربة العديد من البلدان والتي ربما تسلط الضوء على الخيارات التي قد تحظى بها أي دولة بعينها.
ومن خلال الحوار والبحث والنصيحة والمساعدة الفنية، ساعد صندوق النقد الدولي في خلق مجتمع عالمي من الممارسة. فاليوم أصبحت وظيفة محافظ البنك المركزي أو وزير المالية أسهل كثيراً من وظيفة وزير الصحة أو وزير العدل. وهذا ليس لأن التحديات أسهل، بل لأن جماعة الممارسين، بقيادة صندوق النقد الدولي، توفر مستوى من الدعم لا وجود له ببساطة في مجالات أخرى.
وتأتي الأنشطة الأكثر إثارة للجدال في أوقات إدارة الأزمات وحلها. إذ تطلب الدول المساعدة المالية من صندوق النقد الدولي عندما تكون في ورطة وتخشى أن تفقد ا لقدرة على الاقتراض من الأسواق الدولية، أو فقدتها بالفعل. وبوسع صندوق النقد الدولي أن يحشد مئات المليارات من الدولارات من أموال البلدان الأعضاء لإعطاء المقترضين الوقت اللازم للعودة إلى الوقوف على أرض ثابتة. والواقع أن موارد الصندوق أعظم كثيراً من المبالغ التي قد يتمكن المجتمع الدولي من حشدها لقضايا أخرى، وذلك لأن أمواله تقدم كقروض ومن المفترض أن يتم سدادها.
وفي مقابل دعمه المالي، يشترط صندوق النقد الدولي على البلدان عادة أن تعمل على معالجة اختلالات التوازن التي تسببت في إحداث المشاكل التي تواجهها، ليس فقط حتى تتمكن من السداد، بل وأيضاً حتى يتسنى لها أن تستعيد جدارتها الائتمانية (وبالتالي قدرتها على الوصول إلى أسواق رأس المال). ولكن من السهل كثيراً أن نخلط بين الآلام الناجمة عن الأزمة ذاتها وتلك التي يستلزمها العلاج.
من المؤكد أن صندوق النقد الدولي يرتكب بعض الأخطاء لا محالة، وهو ما يرجع جزئياً إلى حقيقة مفادها أن الأسئلة والقضايا التي يتعين عليه أن يعالجها دائمة التغير، وبالتالي فإنه لا يعرف أبداً ما إذا كانت الحالة الفكرية الراهنة ملائمة لمواجهة تحديات جديدة. ولكنها منظمة مفتوحة بالقدر الذي يجعلها قادرة على الاستجابة لمنتقديها.
ولنتأمل الآن البديل. إن العالم في غياب صندوق النقد الدولي يبدو أشبه كثيراً بفنزويلا اليوم. فقد أصبح هوجو شافيز أثيراً لدى أولئك الذين يهاجمون صندوق النقد الدولي، بما في ذلك ستيجليتز، عندما علق مشاورات المادة الرابعة عام 2004. ونتيجة لهذا، فقد الفنزويليين القدرة على الوصول إلى المعلومات الاقتصادية الأساسية التي تلتزم الدولة بتقاسمها مع العالم، من خلال صندوق النقد الدولي. وقد منع هذا الانقطاع المجتمع الدولي من التعبير عن صوته مع تبني الدولة لسياسات غير مسؤولة حقا، فأنفقت في عام 2012، وكأن سعر برميل النفط كان 197 دولاراً وليس 107.
ومع انهيار أسعار النفط منذ ذلك الحين، انزلق اقتصاد فنزويلا إلى دوامة هابطة: فالناتج المحلي الإجمالي ينكمش بوتيرة غير مسبوقة، وتجاوز معدل التضخم 200%، وانخفضت قيمة العملة إلى أقل من 10% من قيمتها السابقة، ونشأت أوجه نقص واسعة النطاق.
وقد حاولت فنزويلا تمويل نفسها بمساعدة بنك التنمية الصيني، والذي لا يفرض ذلك النوع من الشروط التي يكرهها من يهاجمون صندوق النقد الدولي. وبدلاً من ذلك، يقدم بنك التنمية الصيني القروض بشروط سرية، لاستخدامات متكتمة وفاسدة، وبمصاحبة امتيازات ضمنية للشركات الصينية في مجالات مثل الاتصالات (شركة هواوي)، والأجهزة (هاير)، والسيارات (شيري)، والتنقيب عن النفط (ICTV). ولم يشترط الصينيين على فنزويلا القيام بأي شيء لزيادة احتمال تمكنها من استعادة الجدارة الائتمانية. بل إنهم لا يطلبون سوى المزيد من النفط كضمان. وأياً كانت أخطاء صندوق النقد الدولي، فإن بنك التنمية الصيني عار ما بعده عار.
والمأساة هي أن أغلب أهل فنزويلا (والعديد من المواطنين في بلدان أخرى) يعتقدون أن صندوق النقد الدولي يسعى إلى الإضرار بهم وليس مساعدتهم. ونتيجة لهذا فإنهم يتحاشون الموارد الضخمة والمشورة الحكيمة التي يستطيع المجتمع الدولي أن يقدمها في وقت الأزمة الاقتصادية بهدف تخفيف الآلام والتعجيل بالتعافي. ولكن هذا جعلهم في حال أسوأ كثيراً مما قد يحمل منتقدو الصندوق أنفسهم على الاعتراف به.