رحلة النقود عبر التاريخ من المقايضة وحتى البيتكوين
منذ بدأ الإنسان حياته على سطح الأرض سعيًا وراء حاجاته، مرَ نشاطه الاقتصادي بعدة مراحل كان أولها مرحلة الاكتفاء الذاتي، حيث كانت الأسرة أو القبيلة تنتج ما تستهلكه، ولما كانت مطالب الحياة بسيطة ومحدودة، لم تكن هناك حاجة إلى تبادل السلع أو الخدمات مع أي مجتمع آخر، نظرًا لبساطة المعيشة وقلة الحاجات.
وبمرور السنين عرف الإنسان ميزة التخصص وتقسيم العمل، وبدأت آثارها تظهر في تحسين نوعية الإنتاج وزيادة كميته، وهنا ظهرت الحاجة إلى عملية تبادل المنتجات، فإذا حقق أحد المنتجين فائضًا في إنتاجه؛ فإنه يستطيع أن يستبدله بفائض إنتاج الآخرين.
وبشكل تدريجي تحول النشاط الاقتصادي إلى مرحلة الاقتصاد النقدي؛ حيث قامت النقود بوظيفة الوسيط لعمليات تبادل السلع، والحافظة لقيمتها، وتغير شكل النقود على عدة مراحل سنتعرف عليها في رحلة تاريخية ممتعة.
الأشكال الأولى للنقود مثيرة للغرابة
واجه التجار صعوبة في الاحتفاظ بإنتاج كل فرد على حدة كأمانة لديهم لحين إتمام عملية التبادل، ووجدوا أنه من الأفضل خلط جميع أنواع السلع المتماثلة في النوع، بحيث تكون الملكية مشاعًا لجميع المنتجين، وحتى يمكن تقدير قيم السلع المتماثلة أو غير المتماثلة تم التعارف والاتفاق بين الناس في كل مجتمع على حدة، على اتخاذ سلعة معينة كنقد يستخدم في قياس جميع السلع الأخرى.
فاستخدم الإغريق الماشية كنقود، بينما تعارف أهل سيلان على استخدام الأفيال، وقامت الأحجار الكبيرة بوظيفة النقود عند قبائل جزيرة باب، كما اسُتخدمت الجماجم البشرية في جزيرة يورينو، واستخدم الهنود الحمر التبغ، بينما كانت نقود أهل الصين هي السكاكين.
الحيوانات تموت.. فلنجرب استخدام المعادن
ذلك لأن المعادن تمتاز عن النقود السابقة بأنها لا تمرض ولا تموت كالحيوان، كما يمكن تجزئتها وتشكيلها بالحجم والشكل المطلوبين؛ لتعبر عن وحدات القيمة لمختلف السلع، بالإضافة إلى أن حجم النقود المعدنية أصغر بكثير من النقود السلعية، كما أنها لا تتطلب تكلفةً للاحتفاظ بها.
ولذلك انتشرت النقود المعدنية في المعاملات، وبمرور الوقت تعود الناس على التعامل باطمئنان بها، فزادت ثقتهم فيها، واكتسبت صفة القبول العام، وأصبحت مقياسًا معبرًا عن قيم جميع السلع والخدمات.
ظهور الذهب والفضة لمنع التزوير
تمكنوا من الحصول على جانب كبير من إنتاج المجتمع، دون أن يقدموا أي مساهمة من جانبهم في هذا الإنتاج، وتسببت وفرة المعادن التي صنعت منها هذه النقود في تسهيل عملية التزوير، وجعلها قليلة التكاليف.
واستنتج المجتمع آنذاك أن العملة الوحيدة التي يمكن أن تحل بديلًا للعملات المعدنية ولا يتمكن أحد من تزويرها هي الذهب أو الفضة، فظهرت النقود المصنوعة من هذين المعدنين، وسرعان ما انتشر استخدامها على المستويين المحلي، والعالمي.
وقامت دول كثيرة بسك عملاتها من الذهب والفضة، بينما اقتصرت بعضها على سك عملتها من الفضة والبعض الآخر سك عملته من الذهب، وكانت كل عملة تحوي وزنًا ثابتًا من المعدن بدرجة نقاوة معينة، وسعر صرف محدد.
وتميزت النقود المصنوعة من الذهب أو الفضة بالثبات النسبي على الأقل في المدى القصير، حيث تتناسب الزيادة في إنتاجهما مع الزيادة في الإنتاج العالمي من جميع السلع، وهذا من شأنه ثبات القيمة التبادلية لها، كما أن لها قيمة ذاتية كامنة فيها حتى ولو لم تستخدم كنقود، وظلت مجرد سبائك.
قصة النقود الورقية منذ أن كانت صكوكًا
يعطي المودع إيصالًا بالوديعة، ثم يتقاضى منه أجرًا يتناسب مع مدة بقاء الوديعة ومبلغها.
ولما كانت جميع الدول الأوروبية تقريبًا تحرم على اليهود الاشتغال بالزراعة والتجارة، فقد اتجه أغلبهم لاحتراف الصيرفة، وكانت حكرًا عليهم حتى القرن الخامس عشر، وكانوا يزاولون إقراض النقود بربا فاحش مع أخذ رهونات كضمان للسداد.
ومع ازدياد حجم التجارة العالمية واتساع دائرة النشاط الاقتصادي، وما استلزم ذلك من زيادة الترحال، ازدادت الودائع لدى الصرافين عددًا وقيمةً، وبالخبرة اكتشف الصراف أن نسبة من الودائع تظل لديه بصفة مستديمة دون طلب، ففكر في استغلالها في عملية الإقراض بفائدة فزادت أرباحه من الاتجار في أموال الغير.
وحتى يغري الناس بإيداع نقودهم لديه قام الصراف بطبع إيصالات نمطية مزخرفة لتسهيل عملية الإيداع والصرف، وتقليل الجهد والتكاليف، واكتساب ثقة الجمهور، وأمام إغراء الأرباح التي جناها من الاتجار في نقود الغير، فكر في طريقة أخرى لزيادة هذه الودائع، فتنازل عن اقتضاء أجر نظير حفظ هذه النقود، وفي مرحلة تالية أغراهم بدفع فائدة لهم عندما يقومون بإيداع نقودهم لديه، وكانت عملية الإقراض بالفوائد مستمرة، ويستفيد الصراف من الفرق بين سعري الفائدة الدائنة والمدينة.
وبازدياد ثقة الناس في الإيصالات التي يصدرها الصراف تم تبادلها في السوق دون ضرورة صرف قيمتها ذهبًا، وبازدياد أرباح الصرافين تحولوا إلى بنوك، فظهر مصرف البندقية سنة 1157، ثم مصرف الودائع في برشلونة سنة 1401، ومصرف أمستردام سنة 1690.
وأول محاولة لإصدار نقود ورقية في شكلها الحديث المعروف، قام بها بنك ستوكهولم في السويد سنة 1656، عندما أصدر سندات ورقية تمثيل دينًا عليه لحاملها، وقابلة للتداول وقابلة للصرف ذهبًا بمجرد تقديمها إلى البنك.
إغراء المكاسب يصنع أزمات مالية
عندما ظهرت النقود الورقية في شكل صك أو سند إذني كانت تعبر عن مديونية حقيقية من الذهب، وكان المبلغ المكتوب على الصك مساويًا تمامًا للنقود الذهبية المودعة لدى الصراف أو البنك، أي أن نسبة الودائع من الذهب كانت تساوي 100% من النقود الورقية المصدرة.
ثم اكتشف البنك أنه بالإمكان طبع سندين مقابل كل جنيه ذهب مودع في خزانته، ويقوم بطرح السند الثاني وهو الجنيه الورقي للتداول دون أي خطر، وبهذه الطريقة تمكن البنك من خلق نقود وإقحامها في النشاط الاقتصادي، وقد عادت له هذه العملية بمكاسب كبيرة شجعته على طبع ثلاثة سندات مقابل كل جنيه من الذهب، وهكذا لم تتوقف عملية خلق النقود أمام إغراء المكاسب السهلة والسريعة.
وكان هذا يعني بالضرورة أن النقود الورقية المصدرة في صورة سندات لا تغطيها نقود ذهبية؛ مما عرض بنوكًا كثيرًا للإفلاس في أوقات الحروب والأزمات الاقتصادية، وهذا ما جعل المُشرِّع في جميع الدول يتدخل لتنظيم عملية إصدار النقود الورقية، وتحديد نسبة الغطاء الذهبي القانوني، وقصر هذا الحق على بنك واحد يخضع لإشراف الحكومة، أو على البنك المركزي المملوك للدولة.
الذهب يختفي تدريجيًّا من المشهد
غير ممكن تنفيذه، إذ إن ما أصدرته البنوك من النقود الورقية يفوق بكثير ما لديها من ذهب، صدرت تشريعات تحرم على الناس طلب صرف نقودهم الورقية ذهبًا من البنوك، وتوقف العمل بنظام المسكوكات الذهبية، وبموجب القانون أصبح للنقود الورقية قوة على المستوى القومي فقط، بينما اقتصر تطبيق نظام سبائك الذهب على المعاملات الدولية، مع فرض قيود شديدة على نقل الذهب خارج البلاد.
وبناءً على مؤتمر جنوة سنة 1922، بدأت دول العالم في تطبيق النظام الجديد للصرف بالذهب، وبمقتضى هذا النظام يحتفظ البنك المصدر للعملة الورقية بغطاء يمثل نسبة معينة من قيمة العملة المصدرة، في صورة سبائك ذهبية أو عملة أجنبية لها غطاء من الذهب كالإسترليني أو الدولار.
ورويدًا رويدًا بدأت تنتشر أفكار الاقتصادي الألماني «ناب» في أنحاء العالم، ومفادها أن النقود هي أولًا وقبل كل شيء من خلق الدولة، وملخص فكرته هو بما أن النقود الذهبية ما هي إلا تعبير عن قيمة الإنتاج الحقيقي، وما النقود الورقية إلا تعبير عن كمية الذهب، فما هو المانع في حذف الذهب من طرفي المعادلتين لتكون النقود الورقية هي المعبرة عن قيمة الناتج القومي بضمان الحكومة.
وما إن حلت سنة 1934 حتى كانت نقود جميع دول العالم تقريبًا متحللة من أي ارتباط بالذهب، فيما عدا الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة أكبر رصيد من الذهب في العالم آنذاك، إذ أبقت على قابلية الدولار الأمريكي إلى التحول إلى ذهب في المعاملات الدولية فقط، على أساس أن أوقية الذهب تساوي 35 دولارًا.
وبهذا تم إيقاف التعامل بالذهب، واستندت قيمة العملة الورقية في كل دولة على مقدرة اقتصادها من ناحية، وعلى القرارات الإدارية الصادرة عن السلطات الحكومية، والتي تحدد قيمة العملة أصلًا، ثم تقرر بعد ذلك زيادة قيمتها أو تخفضيها تبعًا للأحوال الاقتصادية على المستويين القومي والدولي.
«البيتكوين» عملة افتراضية تثير الجدل
لضمان سلامة المعاملات؛ إذ إنها تعتمد أساسًا على التوقيع الإلكتروني والتشفير المباشر بين شخصين، وتنتج بواسطة تعدين «بيتكوين» عن طريق الحاسوب المزود بكروت شاشة قوية، أو أجهزة خارجية مصممة خصيصًا لعمليات التعدين.
وتعتمد هذه العملة على نظام الند للند (peer-to-peer)، وهو نظام يمكن المستخدمين من التعامل علنًا ومباشرةً مع بعضهم البعض دون الحاجة إلى وسيط بنكي أو نقدي، ولا توجد رسوم تحويل ولا عمولة عند استخدام هذه العملة التي لا تمر بالمصارف أو الجهات الوسيطة، وبإمكان المستخدم تبديل قطع «بيتكوين» النقدية الموجودة لديه بعملات أخرى حقيقية، ويمكن القيام بذلك بين المستخدمين أنفسهم.
وتعد ألمانيا الدولة الوحيدة التي اعترفت رسميًّا بعملة «بيتكوين»، وبأنها نوع من النقود الإلكترونية، وبهذا اعتبرت الحكومة الألمانية أنها تستطيع فرض الضريبة على الأرباح التي تحققها الشركات التي تتعامل بـ«بيتكوين»، في حين تبقى المعاملات المالية الفردية معفية من الضرائب.
وكان قاضٍ فدرالي في الولايات المتحدة قد حكم مؤخرًا بأن «بيتكوين» هي عملة ونوع من أنواع النقد، ويمكن أن تخضع للتنظيم الحكومي، لكن الولايات المتحدة لم تعترف بالعملة رسميًّا بعد.
ويرى البعض أن الاعتراف الرسمي يحمل جانبًا إيجابيًّا، وهو إعطاء العملة المزيد من الشرعية، في حين يرى آخرون أن هذا قد يفتح الباب إلى مزيد من تنظيم العملة وربطها بالحكومات، وهذا يتعارض مع إحدى ميزات «بيتكوين» بوصفها عملة غير خاضعة لأي جهة.