بسم الله الرحمن الرحيم
في واجبات الزوج تجاه زوجته
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد أثبت الله تعالى لكلٍّ من الزوجين حقوقًا، وحقُّ كلِّ واحدٍ منهما يقابله واجبُ الآخَر، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلاَ إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا»(١)، غير أنَّ الرجل -لاعتباراتٍ متميِّزةٍ- خصَّه اللهُ بمزيدِ درجةٍ لقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: ٢٢٨].
وحقوق الزوجية ثلاثةٌ: بعضها مشتركٌ بين الزوجين، وبعضها خاصٌّ بكلٍّ منهما على حدةٍ، وقد تقدَّم -في مقالٍ سابقٍ- التعرُّضُ إلى حقِّ الزوج على زوجته وما أوجبه الله على الزوجة من التزاماتٍ وآدابٍ أخلاقيةٍ تقوم بها تجاه زوجها، وهي مسئولةٌ أمام الله تعالى عن ضياع حقوقه المرتبطة بها أو التقصير فيها، وفي هذه الكلمة نتعرَّض بالذكر لحقِّ الزوجة على زوجها وما أوجبه اللهُ تعالى على الزوج من التزاماتٍ وآدابٍ أخلاقيةٍ يقوم بها تجاه زوجته، وهو مسئولٌ -أيضًا- أمام الله عن ضياع حقوقها المرتبطة به والتقصير فيها، ويمكن أن نقسم حقوقَ الزوجة على زوجها إلى حقوقٍ ماليةٍ، وأخرى غير ماليةٍ، تظهر -باختصارٍ- فيما يلي:
الحقوق المالية:
يثبت للزوجة المهرُ أو الصداق والنفقة كأثرٍ عن عقد الزواج، وهما حقَّان ماليَّان ثابتان للمرأة، يؤدِّي الزوج الحقَّين الماليَّين ويلتزم توفيتَهما كاملين، وتظهر صورتهما على الوجه التالي:
أوَّلا: توفية المهر كاملاً:
المهر هو المال الذي يجب على الزوج تجاه زوجته بالنكاح أو الوطء إجماعًا(٢)، ويُطْلَق عليه -أيضًا- الصداق، وسمِّي بذلك للإشعار بصدق رغبة باذِلِه في النكاح الذي هو الأصل في إيجاب المهر(٣).
ويدلُّ على مشروعيته قولُه تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤]، وقولُه تعالى: ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ٢٥]، والمراد بالأجر هو المهر، وقولُه تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [النساء: ٢٤]، وصحَّ في الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ» فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً»، قَالَ: «مَا أَصْدَقْتَهَا؟» قَالَ: «وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ»، قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»(٤).
والمهر حقٌّ خالصٌ للزوجة وليس لغيرها حقٌّ فيه، فلا يحِلُّ للزوج أو لأوليائها أن يأخذوا من مهرها شيئًا بغير إذنها لقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [النساء: ٢٤]، وقولِه تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٢٠].
ثانيًا: الإنفاق على الزوجة:
ومن حقوق الزوجة التي يلتزم بها الزوجُ: قيامُه بواجب النفقة عليها إجماعًا(٥)، والنفقة مقدَّرةٌ شرعًا بكفايتها من الطعام واللباس والسكن على قدر حال الزوج، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، وقولُه تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: ٧]، وقولُه تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ [الطلاق: ٦]، والأمر بالإسكان أمرٌ بالإنفاق، قال ابن قدامة -رحمه الله- في الآية: «فإذا وجبتِ السكنى للمطلَّقة فللَّتي في صلب النكاح أَوْلى»(٦)، إذ المعلوم -عقلاً- أنَّ المرأة لا تصل إلى النفقة على نفسها إلاَّ بالاسترزاق والخروج والاكتساب، وهي محبوسةٌ منه لحقِّ الزوج: يمنعها من التصرُّف والاكتساب، فلا بدَّ أن ينفق عليها(٧)، لذلك لا يجوز أن تُضارَّ المرأةُ في الإنفاق عليها قَصْدَ التضييق عليها في النفقة، الأمر الذي يكون سببًا لخروجها لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ [الطلاق: ٦]، ويدلُّ -من السنَّة- على وجوب النفقة على الزوج قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»(٨)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم لمن سأله عن حقِّ المرأة على الزوج: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ»(٩)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم لهندٍ بنت عتبة زوجِ أبي سفيان رضي الله عنهما: «خُذِي -أي: من مال أبي سفيان-مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»(١٠)، فلو لم تكن النفقة واجبةً لم يأذن لها بالأخذ من غير إذن زوجها، إذ الأصل في الأموال التحريم، فلا يجوز لأحدٍ أن يأخذ مالَ أحدٍ بلا سببٍ شرعيٍّ(١١).
الحقوق غير المالية:
يمكن أن نستجمع الحقوق غيرَ المالية التي يلتزم بها الزوجُ تجاه زوجته فيما يلي:
أوَّلاً: معاشرة الزوجة بالمعروف:
يجب على الزوج أن يُحسن عشرةَ زوجته بحيث تكون مصاحبتُه لها بالمعروف، أي: بحسب ما تعرفه بطبعها، ومخالطتُه إيَّاها بما تألفه مِن سجيَّتها، وهذا مشروطٌ بما لا يُستنكر من ذلك شرعًا، بمعنى أن لا تخرج عشرةُ زوجته عن حدود العرف والمروءة، لأنَّ مراعاةَ عرفِ الناس وعاداتِهم مقيَّدٌ بعدم مخالفة الأحكام والأخلاق التي يدعو الشرعُ إليها والآدابِ التي يحثُّ عليها.
ويدلُّ على وجوب معاشرة الزوجة بالمعروف قولُه تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ١٩]، فالأمر في الآية يفيد الوجوبَ، ويتأكَّد هذا الحكمُ بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»(١٢)، قال المباركفوري -رحمه الله-: «الاستيصاء قبول الوصيَّة، والمعنى: «أوصيكم بهنَّ خيرًا فاقبلوا وصيَّتي فيهنَّ»»(١٣)، وقد أكَّد الإسلام على حسن معاشرة الزوج لزوجته، وحثَّ على المصاحبة بالمعروف، وجعل خيارَ المسلمين خيارَهم لنسائهم، لأنَّ الأهل هم أحقُّ مِن غيرهم بحسن الخُلُق والبشر والملاعبة والمداعبة والتلطُّف والتوسُّع في النفقة وغيرها من وجوه حسن المعاشرة -كما سيأتي-، وقد جاء ذلك في قوله: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»(١٤)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنِسَائِهِمْ»(١٥)، ذلك لأنَّ الغرض -من وراء هذا التعامل- هو إدخال السرور والمودَّة الضرورية لحسن المعاشرة بين الزوجين، وهو مدعاةٌ لاستقرار بيت الزوجية وسببٌ لهنائه في معيشته.
هذا، وللمعاشرة بالمعروف وجوهٌ كثيرةٌ نذكر منها:
الوجه الأوَّل: تطييب القول لها والعنايةُ بالمظهر أمامها، فإنه يعجبها فيه ما يعجبه فيها، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- وهو يصف حالَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع نسائه أمَّهات المؤمنين حيث قال: «وكان من أخلاقه صلَّى الله عليه وسلَّم أنه جميل العشرة دائمُ البشر، يداعب أهلَه ويتلطَّف بهم، ويوسِّعهم نفقتَه، ويضاحك نساءَه، حتى إنه كان يسابق عائشةَ أمَّ المؤمنين يتودَّد إليها بذلك»(١٦).
ولا شكَّ أنَّ الإيذاءَ بالقول أو الفعل، وكثرةَ عبوس الوجه وتقطيبِه عند اللقاء، والإعراضَ عنها والميل إلى غيرها ينافي العشرةَ بالمعروف، قال القرطبيُّ -رحمه الله- في معنى الآية: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ١٩]: «أي: على ما أمر الله به مِن حسن المعاشرة. .. وذلك توفية حقِّها من المهر والنفقة، وألاَّ يعبس في وجهها بغير ذنبٍ، وأن يكون منطلقًا في القول لا فظًّا ولا غليظًا ولا مُظْهِرًا ميلاً إلى غيرها .. فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهنَّ لتكون أُدْمة(١٧) ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش»(١٨).
وممَّا ينافي العشرةَ بالمعروف -أيضًا- تركُ العناية بالمظهر وحسن الهيئة، قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَزَّيَّنَ لِي؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]»(١٩)، فزينة الرجال على تفاوُت أحوالهم وأعمارهم فإنهم يعملون على تحقيق اللياقة والحذق والوفاق بالملبس اللائق والطيب وتطهير الفم وما بين الأسنان من فضول الطعام بالسواك وما شابهه، وإزالة ما عَلِقَ بالجسم من أدرانٍ وأوساخٍ، وإزالة فضول الشعر وقَلْم الأظافر والخضاب للشيوخ والخاتم وغيرها ممَّا فيه ابتغاء الحقوق، ليكون عند امرأته في زينةٍ تسرُّها ويُعِفَّها عن غيره من الرجال(٢٠).
الوجه الثاني: ومن وجوه العشرة بالمعروف التلطُّفُ بالزوجة وممازحتها وملاعبتها ومراعاة صغر سنِّها، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: «تَقَدَّمُوا» فَتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ: «هَذِهِ بِتِلْكَ»»(٢١)(٢٢)، وعنها رضي الله عنها -أيضًا- قالت: «كَانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا أَنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ»(٢٣)، وعنها رضي الله عنها قالت: «كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ(٢٤) عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ، فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي»(٢٥).
الوجه الثالث: مؤانسة الزوج أهلَه ومسامرتُه لها بالحديث معها والاستماع إليها، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- وهو يصف خُلُقَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع زوجاته رضي الله عنهنَّ: «ويجتمع نساؤه كلَّ ليلةٍ في بيت التي يبيت عندها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فيأكل معهن العَشاءَ في بعض الأحيان، ثمَّ تنصرف كلُّ واحدةٍ إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعارٍ واحدٍ، يضع عن كتفيه الرداءَ وينام بالإزار، وكان إذا صلَّى العِشاءَ يدخل منزلَه يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٦).
وقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تروي له قصَّةَ إحدى عَشْرَةَ امرأةً جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن مِن أخبار أزواجهن شيئًا في حديث أمِّ زرعٍ(٢٧)، وهو صلَّى الله عليه وسلَّم يستمع إليها من غير مللٍ.
الوجه الرابع: توسيع الزوج في النفقة على زوجته لقوله تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ [الطلاق: ٧]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»(٢٨)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا أَنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً»(٢٩).
كما يستشيرها في قوامة البيت بحكم التعاون على إصلاح البيت وترتيب لوازمه على نحوٍ يجلب السعادةَ والهناءَ، ويستشيرها -أيضًا- في خِطبة بناتها لِما يجمعها من حقٍّ مشتركٍ فيهنَّ(٣٠).
الوجه الخامس: الإغضاء عن بعض عيوب الزوجة التي يكرهها وعن جوانب نقائصها وأخطائها ما لم يكن فيه تجاوزٌ عن حدود الشرع، ولا سيَّما إذا كانت الزوجةُ تتمتَّع بخصالٍ حميدةٍ ومكارمَ حسنةٍ، فالجدير به أن يستحضر حسناتِها معه وهو ينظر إلى سيِّئاتها، إذ مقتضى العدل أن لا يركِّز على الجانب الكريه السلبيِّ مِن زوجته وينسى الجوانبَ المضيئةَ الحسنة فيها، بل يتجاوز عن سيِّئتها لحسناتها ويتغاضى عمَّا يكره لِما يحبُّ، وقد أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى هذا المعنى بقوله: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ»(٣١)، وأوضح النوويُّ -رحمه الله- في شرحه للحديث بقوله: «أي: ينبغي أن لا يبغضها لأنه إن وجد فيها خُلُقًا يكره وجد فيها خُلُقًا مَرْضيًّا بأن تكون شرسةَ الخُلُق لكنَّها ديِّنةٌ أو جميلةٌ أو عفيفةٌ أو رفيقةٌ به أو نحو ذلك»(٣٢).
وعلى الزوج واجب معاشرتها بالمعروف وإن أخلَّت هي بهذا الواجب تجاهه، لأنه ينبغي على الزوج أن يدرك أنَّ المرأة خُلقتْ بشيءٍ من الاعوجاج وهو ما يؤدِّي إلى شيءٍ من التقصير في حقِّ زوجها، لذلك كان مِن فقه الزوج أن يؤسِّس معاملتَه معها على هذا المبدإ الربَّانيِّ من الإحسان إليهنَّ والصبر على عِوَج أخلاقهنَّ؛ لأنه لا يستطيع أن يغيِّرها عمَّا جُبِلتْ عليه لعدم قابليتها للتقويم بصورةٍ تامَّةٍ ومَرْضيَّةٍ، وهو أمرٌ متعذِّرٌ عليها غيرُ داخلٍ في وُسْعِها واستعدادها، فإن عزم على تحقيق كمال تقويمها بحيث يُذهب عنها كلَّ اعوجاجٍ، فإنه يَعجز عن ذلك ويُفضي الأمر -في آخر المطاف- إلى الشقاق والفراق، وهو معنى كسرها الذي ثبتت فيه الأحاديثُ، منها قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا»(٣٣)، وفي روايةٍ أخرى أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»(٣٤).
قال النوويُّ -رحمه الله-: «وفي هذا الحديث ملاطفةُ النساء، والإحسان إليهنَّ، والصبرُ على عِوَج أخلاقهنَّ، واحتمالُ ضعف عقولهنَّ، وكراهةُ طلاقهنَّ بلا سببٍ، وأنه لا يطمع باستقامتها»(٣٥).
وعلى الزوج أن يضع في حسبانه أنَّ الله تعالى قد يجعل الخيرَ الكثير مع المرأة التي يكرهها لدمامةٍ أو سوء خُلُقٍ من غير فاحشةٍ ولا نشورٍ(٣٦)، فقد تصلح نفسُها ويستقيم حالُها لِما تشعر به مِن صبره على أذاها وقلَّة إنصافها له، أو ما تراه مِن حِلْمه على هفواتها وهَنَاتها، أو ما تجده مِن حسن معاشرته لها، وقد يأتي الخيرُ عن طريقها بما يرزقه اللهُ منها أولادًا نجباءَ صالحين تَقَرُّ بهم عينُه فيحصل النفعُ بهم، فيعلو قدرُها عنده، فتنقلب الكراهة محبَّةً والنفرةُ رغبةً، وقد يحصل من اللهِ الثوابُ الجزيل بسبب احتماله إيَّاها والإحسانِ إليها مع كراهته لها، فيكون ذلك مِن أعظم أسباب هنائه وسعادته في مستقبل أيَّامه عملاً بقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩]، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله- في معنى الآية: «أي: فعسى أن يكون صبرُكم مع إمساككم لهنَّ وكراهتهنَّ فيه خيرٌ كثيرٌ لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عبَّاسٍ في هذه الآية: هو أن يعطف عليها فيُرزقَ منها ولدًا، ويكون في ذلك الولد خيرٌ كثيرٌ»(٣٧).
الوجه السادس: عدم إفشاء سرِّها وذكرِ عيبها ونشرِ حديثها بين الناس، لأنه أمينٌ عليها يحرص على رعايتها والقيامِ على شؤونها والذَّوْدِ عنها لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»(٣٨)، قال الصنعانيُّ -رحمه الله-: «والحديث دليلٌ على تحريم إفشاء الرجل ما يقع بينه وبين امرأته مِن أمور الوقاع ووصفِ تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قولٍ أو فعلٍ ونحوه، وأمَّا مجرَّد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجةٍ فذكرُه مكروهٌ لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(٣٩)، فإن دَعَتْ إليه حاجةٌ أو ترتَّبت عليه فائدةٌ بأن كان ينكر إعراضَه عنها أو تدَّعي عليه العجزَ عن الجماع أو نحو ذلك؛ فلا كراهة في ذكره كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنِّي لَأَفْعَلُهُ أَنَا وَهَذِهِ»(٤٠)، وقال لأبي طلحة: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟»(٤١)، وقال لجابرٍ: «الكَيْسَ الكَيْسَ»(٤٢)، وكذلك المرأة لا يجوز لها إفشاءُ سرِّه، وقد ورد به نصٌّ أيضًا»(٤٣).
الوجه السابع: إحسان الظنِّ بزوجته والإذنُ لها في الخروج لشهود الجماعة أو زيارة الأقارب إذا أُمِنَتِ الفتنةُ، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات: ١٢]، ولقوله تعالى: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور: ١٢]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلاَ يَمْنَعْهَا»(٤٤)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ»(٤٥).
لذلك يأذن الزوج بخروج زوجته إلى المساجد ما لم يكن خروجها مدعاةً إلى الفتنة من التزيُّن والتطيُّب والتبرُّج والاختلاط بالرجال في دخول المسجد والخروج منه، أي: بالضوابط الشرعية، فمسبِّباتُ الفساد والمخالفات الشرعية جديرةٌ بقطعها لئلاَّ يَدَعَ مجالاً لمكايد الشيطان، فإنه «يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»(٤٦)، فيتأهَّب الإنسان للتحفُّظ والاحتراز مِن وساوسه وتشكيكاته وشرِّه، فقد روى مسلمٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ(٤٧)، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ، فَرَآهُمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَمْ أَرَ إِلاَّ خَيْرًا»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأَهَا مِنْ ذَلِكَ» ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «لاَ يَدْخُلَنَّ رَجُلٌ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا عَلَى مُغِيبَةٍ إِلاَّ وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوِ اثْنَانِ»(٤٨)، فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحسن الظنَّ بأسماءَ ونفى السوءَ عنها، لكن سدَّ ذريعةَ الفتنة.
الوجه الثامن: مساعدة الرجل زوجتَه في خدمة أعمال البيت وأشغال المنزل من تنظيفٍ وترتيبٍ وغيرهما، خاصَّةً أيَّام حملها للجنين أو بعد وضعِها للمولود أو وقتَ مرضها أو عند زحمة أعمالها، فقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يخدم مهنةَ أهله ويقمُّ(٤٩) بيته ويرفو(٥٠) ثوبَه ويخرز نعلَه ويحلب شاتَه، فقد سُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها: «مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟» قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ»»(٥١)، وعند أحمد: «كَانَ بَشَرًا مِنَ الْبَشَرِ: يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، وَيَخْدُمُ نَفْسَهُ»(٥٢)، وفي لفظٍ لابن حبَّان: «مَا يَفْعَلُ أَحَدُكُمْ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ: يَخْصِفُ(٥٣) نَعْلَهُ، وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ، وَيَرْقَعُ دَلْوَهُ»(٥٤)، بل قد يتجاوز الزوج حُسْنَ المعاشرة بالمعروف فيذكر زوجتَه بعد وفاتها بما كانت تحبُّ أن يفعله زوجُها من أجلها، وهذا -بلا شكٍّ- من كمال الوفاء وتمام المحبَّة لها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي بِثَلاَثِ سِنِينَ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ ثُمَّ يُهْدِي فِي خُلَّتِهَا مِنْهَا»(٥٥)، والمراد بخُلَّتها خلائلُها، أي: أهل صداقتها(٥٦)، وفي حديث أنسٍ رضي الله عنه: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِالشَّيْءِ قَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى فُلاَنَةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ صَدِيقَةً لِخَدِيجَةَ»»(٥٧)، وممَّا يؤكِّد هذا المعنى -أيضًا- حديثُ عائشة رضي الله عنها قالت: «جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْتِ؟» قَالَتْ: «أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ»، فَقَالَ: «بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ، كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟» قَالَتْ: «بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ»، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الإِقْبَالَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الإِيمَانِ»»(٥٨).
الوجه التاسع: استيفاء الزوج رغبتَها الفطريةَ بالجماع لتحصينها ضدَّ الفاحشة وإعفافِها لتُقْصِر عن الحرام، ذلك لأنَّ جماعَ الرجل أهلَه واجبٌ على أظهر قولَيِ العلماء إذا لم يكن له عذرٌ، وهو مذهب مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد، واختاره ابن تيمية(٥٩)، وحدُّ وجوبه بقدر كفايتها وحاجاتها بما يحصل به التحصينُ مِن غير إنهاكٍ لبدنه ولا اشتغالٍ عن معيشته، فقد روى البخاريُّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ اللهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟»، فَقُلْتُ: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ» قَالَ: «فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»»(٦٠)، والحديث يدلُّ على أنَّ الزوج يجب عليه أن يوفِّيَ زوجتَه حقَّها من الوطء لئلاَّ يَذَرَها كالمعلَّقة(٦١)، وهو مِن أوكد حقِّها عليه، وهو أعظمُ مِن إطعامها وذلك أنَّ الجماع يتحدَّد بقدر حاجتها وقدرته كما يتحدَّد إطعامُها بقدر حاجتها وقدرته(٦٢)، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ويجب على الزوج وطءُ امرأته بقدر كفايتها ما لم يُنهك بدنَه أو تشغله عن معيشته، غيرَ مقدَّرٍ بأربعة أشهرٍ كالأَمَة، فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكمُ كالنفقة»(٦٣)، وقال القرطبيُّ -رحمه الله-: «ثمَّ عليه أن يتوخَّى أوقاتَ حاجتها إلى الرجل فيُعِفَّها ويغنيَها عن التطلُّع إلى غيره، وإن رأى الرجلُ من نفسه عجزًا عن إقامة حقِّها في مضجعها أخذ مِن الأدوية التي تزيد في باهِه(٦٤) وتقوِّي شهوتَه حتى يُعِفَّها»(٦٥).
ثانيًا: وقاية زوجته من النار
يجب على الزوج أن يعمل على وقاية نفسه وزوجته من النار بتعليمها الضروريَّ من أمور دينها: عقيدةً وعبادةً ومعاملةً إذا كانت تجهل ذلك، وحثُّها على الخير والمبادرةِ إلى طاعة ربِّها، لأنَّ حاجتها لإصلاح دينها وتزكية روحها بما يكفل لها الاستقامةَ على الدين والثباتَ على الحقِّ والفوزَ بالجنَّة والنجاةَ من النار أعظمُ مِن حاجتها إلى الطعام والشراب الواجبِ بذلُهما، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ﴾ [التحريم: ٦]، فالآية تفيد أنَّ الزوج يجب عليه أن يُصلح نفسَه بتعلُّم ما يحتاجه لإقامة دينه بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، ويُصلح أهلَه من زوجةٍ وأولادٍ وممَّن يدخل تحت ولايته، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(٦٦)، فهذه مسؤوليةٌ وأمانةٌ ملقاةٌ على عاتق الزوج لا يجوز تضييعُها، بل الواجبُ القيامُ بها على الوجه المطلوب شرعًا، ويندرج ضمن مسؤوليته ما أوصى به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرجالَ بقوله: «أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ(٦٧)عِنْدَكُمْ»(٦٨)، ومن الاستيصاء بها خيرًا أن يأمرها بما أمر اللهُ به وينهاها عمَّا نهى الله عنه، فيعلِّمها الدينَ والخير -بعد تحصيله للعلم والمعرفة- وما لا يُستغنى عنه من الأخلاق والأدب، ويعينها عليه لقوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢]، وقولِه تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤]، فيخبر أهلَه بوقت الصلاة ووجوب الصيام والإفطار، وينهى أهلَه عن الحرام بمختلف وجوهه وأشكاله وأنواعه، فقد كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا أوتر يقول: «قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ»(٦٩)، وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: «اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ!»»(٧٠)، فقد أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى موجِب استيقاظ أزواجه -وهن صواحبات الحُجَر- أي: ينبغي لهنَّ أن لا يتغافلن عن العبادة ويعتمدن على كونهنَّ أزواجَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنما خصَّهن بالإيقاظ من باب: «ابدأ بنفسك ثمَّ بمن تعول»(٧١)، ويؤكِّد هذا المعنى حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»»(٧٢).
فالزوج -إذن- مطالَبٌ بوقاية أهله من النار، لأنَّ له القوامةَ على زوجته والرياسةَ على مَن تحت رعايته وكفالته، فزوجتُه كالرعيَّة بالنسبة إليه، والأسيرةِ بين يديه، فلا يتوانى عن تعليمها، ولا يَفْتُر عن حثِّها على طاعة ربِّها عزَّ وجلَّ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويساعدها على إصلاح نفسها بما أصلح به نفسَه، تواصيًا بالحقِّ وتعاونًا على الخير عملاً بقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: ٢].
ثالثًا: عدم الإضرار بالزوجة
لا يجوز للزوج أن يُضِرَّ بغير وجه حقٍّ، أو يُلحق بها الأذى ظلمًا وعدوانًا، لأنه إذا كان إلحاق الضرر بالغير ظلمًا منهيًّا عنه بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربِّه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا»(٧٣)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»(٧٤)؛ فإنَّ إضرار الزوج بزوجته أعظمُ ظلمًا وأشدُّ حرمةً لِما فيه من منافاةٍ لوجوب قبول وصيَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»(٧٥)، ولمناقضته وجوبَ معاشرتها بالمعروف، وقد وردت نصوصٌ خاصَّةٌ في تحريم إضرار الزوج بزوجته كالمطلِّق إذا أراد بالرجعة مُضَارَّتَها ومَنْعَها من التزوُّج بعد العِدَّة حتى تكون كالمعلَّقة لا يعاشرها معاشرةَ الأزواج ولا يمكِّنها من التزوُّج؛ فهو آثمٌ بهذه المراجعة باستثناء ما إذا قَصَد بها إصلاحَ ذات البين والمعاشرةَ بالمعروف لقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا﴾ [البقرة: ٢٢٨]، قال القرطبيُّ -رحمه الله- موضِّحًا هذا المعنى: «الرجل مندوبٌ إلى المراجعة، ولكن إذا قَصَد الإصلاحَ بإصلاح حاله معها، وإزالةِ الوحشة بينهما، فأمَّا إذا قَصَد الإضرارَ وتطويلَ العِدَّة والقطعَ بها عن الخلاص مِن ربقة النكاح؛ فمحرَّمٌ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١]»(٧٦).
ولا يخفى أنَّ تحريم الإضرار بالزوجة لا يقتصر على هذه الكيفية، وإنما يتعدَّى حكمُه إلى كلِّ ضررٍ مادِّيٍّ أو معنويٍّ.
فمِن الضرر المادِّيِّ: إذايتُها بالجلد أو الإضرارُ بها بالصفع أو بمختلف أنواع الضرب مطلقًا تشفِّيًا وانتقامًا.
والضرر المعنويُّ قد يكون بالكلام أو النظر أو الإشارة أو السخرية، فمن ذلك القولُ القبيح، والشتم المشين، وعدمُ المبالاة بها والاهتمامِ بشأنها، والنظرُ إليها باستخفافٍ، والتنقُّصُ، والعبوسُ والقطوب في وجهها، وعدمُ الإصغاء إلى كلامها أو تجاهُلُ سؤالها، وعدمُ تلبية طلباتها المشروعة، ونحو ذلك من التصرُّفات المؤذية بحالها ومقامها، وقد جاء في حديث معاوية القشيريِّ رضي الله عنه أنه قال: قلت: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟» قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ، وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ»(٧٧)، ففي الحديث نهيٌ عن ضرب الوجه لأنه أعظمُ الأعضاء وأظهرُها، وهو مشتملٌ على أجزاءٍ شريفةٍ وأعضاءٍ لطيفةٍ، وقد جاء في الحديث: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»(٧٨)، كما نهى أن يقول لها قولاً قبيحًا مثل: «قبَّحكِ اللهُ»، أو يشتمَها أو يعيِّرَها بشيءٍ مِن بدنها لأنَّ الله تعالى صوَّر وجهَها وجِسْمَها و﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: ٧]، و«كُلُّ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَسَنٌ»(٧٩)، وذمُّ الصنعة يعود إلى مذمَّة الصانع(٨٠)، فإنَّ ذلك أذًى وضررٌ بها، وكلُّ ضررٍ تنفيه شريعةُ الإسلام.
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ الزوج إذا كانت له الرعاية على أهله والقوامةُ على زوجته؛ فهو مسئولٌ عن وقايتها من النار -كما تقدَّم-، وذلك بحملها على طاعة الله واجتنابِ نواهيه بالنصيحة والإرشاد، فإذا نشزت الزوجةُ وتركت طاعةَ ربِّها وخرجت عن طاعة زوجها؛ فقد أعطى اللهُ تعالى حقَّ التأديب للزوج، وتقويمُها إنما يكون بالتدرُّج مع زوجته في استعمال الوسائل التأديبية المشروعة بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: ٣٤]، ففي الآية بيانٌ لوسائل التأديب والتدرُّج فيها، فإن لم ينفع الوعظُ معها انتقل الزوج في تأديبه لزوجته إلى الوسيلة الثانية المتمثِّلة في الهجر في فراش النوم بأن يولِّيَها ظهرَه ولا يجامعها ولا يتحدَّث معها إلاَّ قليلاً عند الحاجة ليحملها هذا التصرُّف على الرجوع عن عصيانها وتركِ نشوزها(٨١).
علمًا أنه لا يهجر إلاَّ في البيت إلاَّ إذا دَعَتْ مصلحةٌ شرعيةٌ في الهجر خارجَ البيت كما هجر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم نساءَه شهرًا خارج بيوتهنَّ.
فإذا كانت وسيلة الوعظ والهجر في المضاجع لا تنفع في التأديب انتقل إلى ضرب الأدب غير المبرِّح الذي لا يشين لها جارحةً ولا يكسر لها عظمًا، ويتجنَّب الوجهَ لأنَّ المقصود من الضرب التأديبُ والإصلاح لا الانتقام والتشفِّي؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً»(٨٢)، والحديث -وإن أباح الضربَ غيرَ المبرِّح وهو غيرُ الشديد ولا الشاقِّ(٨٣) الذي لا يُحدث جرحًا- إلاَّ أنَّ تَرْكَ الضرب -إذا أمكن إصلاحُ الزوجة بالصبر على نشوزها ومعالجةِ عصيانها بوسيلة الوعظ والهجر في المضاجع- أَوْلى وأفضل، قال الشافعيُّ -رحمه الله-: «والضرب مباحٌ وتركُه أفضل»(٨٤)، وقد دلَّت بعض الأحاديث على هذا المعنى في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ اليَوْمِ»(٨٥)، وفي حديث آخر عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَتْ: «كَانَ الرِّجَالُ نُهُوا عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ شَكَوْهُنَّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ضَرْبِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ أَطَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ قَدْ ضُرِبَتْ»»، قَالَ يَحْيَى: وَحَسِبْتُ أَنَّ الْقَاسِمَ قَالَ: ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ بَعْدُ: «وَلَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ»(٨٦)، فخيار الناس لا يضربون نساءَهم، بل يصبرون عليهنَّ بتحمُّل شططهنَّ وتقصيرهنَّ، ويؤيِّد أفضليةَ تَرْكِ الضربِ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم لم يكن الضربُ أسلوبَ تعامُله مع نسائه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلاَ امْرَأَةً لَهُ قَطُّ، وَلاَ ضَرَبَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ»(٨٧).
هذا، وإن نَفِدَ صبرُه على زوجته ولم تَعُدْ يُتحمَّل تقصيرُها وشططها فله أن يباشر ضَرْبَ الأدب غير الشاقِّ كعلاجٍ إصلاحيٍّ، وتبقى الأفضلية لتَرْك الضرب، قال ابن العربيِّ -رحمه الله-: «ومِن النساء، بل من الرجال من لا يقيمه إلاَّ الأدب (أي: الضرب)، فإذا علم ذلك الرجلُ فله أن يؤدِّب، وإن تَرَك فهو أفضل»(٨٨).
رابعًا: وجوب العدل بين زوجته وضرَّتها:
يجب على الزوج العدلُ بين زوجته وضَرَّتها في المعاملة إن كان له أكثرُ من زوجةٍ بأن يعطيَ كلَّ زوجةٍ حقَّها الشرعيَّ على وجه العدل بينهنَّ، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء: ٣]، فإنَّ الله تعالى ندب إلى الاقتصار على واحدةٍ عند الخوف من عدم العدل في الزيادة عليها، إذ الخوف إنما يقع على ترك واجبٍ، فدلَّ ذلك على أنَّ العدل بينهنَّ واجبٌ اتِّقاءً للجَوْر والحَيْف، وقد أشار إليه اللهُ تعالى بقوله: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ [النساء: ٣]، أي: لا تجوروا(٨٩)، فإذا كان الجَوْر محرَّمًا كان العدل بينهنَّ واجبًا، وقد جاء تأكيد معنى التسوية بينهنَّ في الحقوق الزوجية من القَسْم والنفقة وحُسن المعاشرة وعدمِ الميل إلى إحداهنَّ بقوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء: ١٢٩]، كما جاء مؤكَّدًا -أيضًا- في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجُرُّ أَحَدَ شِقَّيْهِ سَاقِطًا أَوْ مَائِلاً»(٩٠)، ففي الحديث دليلٌ على تحريم الميل إلى إحدى الزوجات دون الأخرى في الحقوق الزوجية التي تدخل تحت مِلكه وقدرته كالقَسْم في المبيت والنفقة من مطعومٍ ومشروبٍ وملبوسٍ وسكنى، سواءٌ كانت إحداهما مسلمةً والأخرى كتابيةً إجماعًا، قال ابن المنذر: «أجمعوا على أنَّ القَسْم بين المسلمة والذمِّيَّة سواءٌ»(٩١)، «وذلك لأنَّ القَسْم من حقوق الزوجية، فاستوت فيه المسلمة والكتابية، كالنفقة والسكنى»(٩٢)، علمًا أنَّ القَسْم في المبيت تُستثنى منها صورةُ ما إذا تزوَّج البِكْرَ على الثيِّب فإنه يقيم عندها سبعًا، وإذا تزوَّج الثيِّبَ على البِكْرِ أقام عندها ثلاثًا، ثمَّ يقسم لكلِّ زوجةٍ منهنَّ ليلتها لحديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ البِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى البِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثًا ثُمَّ قَسَمَ»(٩٣).
أمَّا ما لا يملكه الزوج ممَّا لا يدخل تحت قدرته على فعلِه مِن معاني المساواة بين الزوجات كالمحبَّة أو الميل القلبيِّ؛ فلا يطالَب الزوجُ بالتسوية فيما بينهنَّ، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلاَ أَمْلِكُ»»(٩٤)، وقد عنى به الحبَّ والمودَّة، ويدخل في هذا النطاق -أيضًا- الجماعُ والشهوة، فلا يجب على الزوج العدلُ فيه بينهنَّ بالإجماع، قال ابن قدامة -رحمه الله-: «لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في أنه لا تجب التسويةُ بين النساء في الجماع، وهو مذهب مالكٍ والشافعيِّ، وذلك لأنَّ الجماع طريقُه الشهوةُ والميل ولا سبيل إلى التسوية بينهنَّ في ذلك، فإنَّ قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى، قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ [النساء: ١٢٩] قال عَبِيدة السلمانيُّ: «في الحبِّ والجماع»، وإن أمكنتِ التسويةُ بينهما في الجماع كان أحسنَ وأَوْلى؛ .. ولا تجب التسوية بينهنَّ في الاستمتاع فيما دون الفَرْج من القُبَل واللمس ونحوهما؛ لأنه إذا لم تجب التسويةُ في الجماع ففي دواعيه أَوْلى»(٩٥).
ولا يجب على الزوج العدلُ بين زوجاته في النفقة والكسوة إذا ما وفَّى بالواجب الذي عليه وقام به تجاه كلِّ واحدةٍ منهنَّ، فله أن يفضِّل إحداهما على الأخرى في النفقة والكسوة إذا كانت الأخرى في كفايةٍ، لمكان المشقَّة في التسوية في ذلك كلِّه، فلو أُمر به فلا يَسَعُه القيامُ به إلاَّ بحرجٍ زائدٍ فسقط وجوبُه كالتسوية في الجماع(٩٦).
كما لا يجب على الزوج التسويةُ بين الزوجات في المهور والولائم، بل يجوز التفاوت فيها، ويدلُّ على ذلك ما جاء عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ، وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلاَفٍ، وَجَهَّزَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ، وَلَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ، وَكَانَ مَهْرُ نِسَائِهِ أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ»(٩٧)، وفي تزويج زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها قال أنسٌ رضي الله عنه: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أَوْلَمَ عَلَيْهَا، أَوْلَمَ بِشَاةٍ»(٩٨).
هذا، والأصل أن يكون لكلِّ زوجةٍ مسكنٌ خاصٌّ بها يأتيها فيه كما فعل النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع نسائه، بدليل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، فظاهر الآية أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يُسكن زوجاتِه في مساكن متعدِّدةٍ مستقلَّةٍ يقسم فيما بينهنَّ، وذلك -بلا شكٍّ- أصون لهنَّ وأستر حتى لا يخرجن من بيوتهنَّ(٩٩)، ولا يجمع أكثر من زوجةٍ في مسكنٍ واحدٍ لمخالفته للأصل السابق إلاَّ برضاها، ويكون ذلك مسكنَ مثلِها لائقًا لا ضرر عليها فيه ولا أذى.
خامسًا: غيرة الرجل على زوجته
الواجب على الزوج أن يغار على زوجته من كلِّ أذًى يلحقها مِن غيره، وهو مِن أعظم حقوق الزوجة على زوجها، وهذا الجانب المحمود يحتاج إلى نوعٍ من تفصيل معانيه ووجوهه:
فالغَيْرة كراهةُ الرجل اشتراكَ غيره فيما هو حقُّه(١٠٠)، وهي تشمل بوصفها العامِّ غيرةَ الرجل على نفسه وعلى ذويه وأهله وعلى عموم الناس، والغيرةُ محمودةٌ لأنَّ أصلها كراهةُ القبائح والفواحش والمحرَّمات والآثام وبغضُها، وهي أخصُّ صفات الرجل الشهم الكريم، ولهذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أغْيَرَ الخلق على الأمَّة، والله سبحانه أشدَّ غيرةً منه، قال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي»(١٠١)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في خطبة الكسوف: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»(١٠٢)، وقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ»(١٠٣)، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «ولهذا كانت غيرة الله أن يأتيَ العبد ما حرَّم عليه، ولأجل غيرته سبحانه حرَّم الفاحشةَ ما ظهر منها وما بطن؛ لأنَّ الخلق عبيده وإماؤه، فهو يغار على إمائه كما يغار السيِّد على جواريه ولله المثل الأعلى، ويغار على عبيده أن تكون محبَّتهم لغيره بحيث تحملهم تلك المحبَّة على عشق الصور ونيل الفاحشة منها»(١٠٤).
هذا، والمقصود بالغيرة -في هذا المقام- هو أحدُ حقوق الزوجة على زوجها: أن يغار عليها من كلِّ أذًى يلحقها من غيره، سواءٌ بنظرةٍ أو ابتسامةٍ أو كلمةٍ أو لمسٍ أو مسٍّ أو اختلاطٍ ونحو ذلك ممَّا يؤذيها في دينها أو نفسها أو عرضها، فمن حقِّ الزوجة على زوجها أن يوفِّر لها حصانةً كافيةً ورعايةً وافيةً وحفظًا تامًّا يندرج ضمن هذا الحقِّ ما يضمره من عامل الغيرة التي تتجلَّى بعض وجوهها في الصور التالية:
الصورة الأولى: أن يغار عليها إن أبدت زينتها لغير زوجها ومحارمها، كما يغار عليها إن لم يغضَّ الرجل الأجنبيُّ بصرَه عنها أو لم تغضَّ بصرها عنه، وينهاها عن ذلك ولا يرضى صنيعها -ولو مع سلامة القلب وحُسْن النيَّة-، لأنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لاَ تُسَوِّغُ الحَرَامَ» لقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣٠-٣١].
الصورة الثانية: أن يغار عليها إن أطلقتْ لسانها بالسوء والفحش والبذاء، فيزجرها عن ذلك لقوله تعالى: ﴿لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: ١٤٨]، وكذلك يغار عليها إن كلَّمتْ أجنبيًّا بخضوعٍ في القول ولينٍ في الخطاب، فيحذِّرها من هذا الصنيع ولو للحاجة وانتفاء سوء الغرض أو فساد القصد لقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: ٣٢].
الصورة الثالثة: أن يغار عليها إن دخلتْ على غير المحارم من الرجال الأجانب أو دخلوا عليها لتجتمع معهم في العمل أو في سهراتٍ عائليةٍ أو غير عائليةٍ، سواءٌ في بيتها أو في بيت غيرها، لأنه لا يأمن عليها سوءَ نظرةٍ أو كلمةٍ أو فعلٍ، فإنَّ عواقب ما تسوِّل النفسُ به وما يوسوس به الشيطان مذمومةٌ ووخيمةٌ، لذلك كان من مقتضى الغيرة ودوافعها أنْ لا يَدَعَها تختلط بالرجال الاختلاطَ الآثم لعموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: ٦]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ: «الحَمْوُ المَوْتُ»(١٠٥).
الصورة الرابعة: أن يغار عليها إن خرجت من بيتها متبرِّجةً بزينتها أو متعطِّرةً أو متحلِّيةً بمختلف الحُلِيِّ والمساحيق أو كاسيةً عاريةً، قاصدةً السوقَ أو العمل أو بعض شؤونها، مختالةً معجبةً بنفسها وهيئتها ومنظرها تثير به شهوةَ الرجال، فإنَّ حرارة الغيرة تدفعه لأنْ يأمرها بارتداء جلباب الستر والحياء لقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣]، ولقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٩]، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا، هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا»(١٠٦)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَعَصَى إِمَامَهُ وَمَاتَ عَاصِيًا، وَأَمَةٌ أَوْ عَبْدٌ أَبَقَ فَمَاتَ، وَامْرَأَةٌ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَدْ كَفَاهَا مُؤْنَةَ الدُّنْيَا فَتَبَرَّجَتْ بَعْدَهُ، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ»(١٠٧)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمُوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللهَ، وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِلاَّتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ، لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلاَّ مِثْلُ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ»(١٠٨)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا مِنْ رِيحِهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ»(١٠٩)، ولقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»(١١٠).
الصورة الخامسة: أن يغار عليها إذا تعرَّضتْ للفتنة بسبب طول غيابه عنها أو لأنه أوردها أماكنَ اللهو والفجور، أو أخذها إلى السواحل والغابات العاجَّة بالمنكرات والفساد، أو اقتنى لها أشرطةَ الغناء وكُتُبَ الخنا والأقراصَ المرئيَّةَ الآثمة أو مجلاَّتِ الفحش والفجور وما إلى ذلك من وسائل الانحلال الخُلُقي والسلوكي ممَّا يركن إليه الأرذلون ويرتضيه المنحطُّون، فإنَّ غيرة الزوج تأبى موتَ النخوة وضياعَ الرجولة الحقَّة الشريفة، فإنَّ فقدان الغيرة ضياعٌ لأصل الدين، وفي هذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: «وهذا يدلُّك على أنَّ أصل الدين الغَيرة، ومن لا غيرةَ له لا دين له، فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدمُ الغيرة تميت القلب فتموت له الجوارح، فلا يبقى عندها دفعٌ ألبتَّةَ، ومَثَلُ الغيرة في القلب مَثَلُ القوَّة التي تدفع المرضَ وتقاومه، فإذا ذهبت القوَّة وجد الداءُ المحلَّ قابلاً ولم يجد دافعًا فتمكَّن فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي(١١١) الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسَّرت طمع فيها عدوُّه»(١١٢).
فهذه بعض وجوه غيرة الرجل على أهله وجوانبها الظاهرة الداخلة في الأصل الممدوح الذي يتبلور حاصله في أنَّ «الغيرة على المحبوب حرصُك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتمُّ إلا بالغيرة من المزاحم»(١١٣)،ويخرج منها -بالتأكيد- قالبها المذموم المتجسِّد في كلِّ غيرةٍ مبنيَّةٍ على الشكِّ والرِّيبة لا تدلُّ عليها الدلائل ولا تشهد لها ظواهر الأحوال، لأنَّ الخواطر تنقلب إلى وساوسَ، وكثرة الوساوس تهجم على المرء فترمي به في زاويةٍ مظلمةٍ من الشكوك والريب، وذلك كإساءة الرجل الظنَّ بزوجته من غير دليلٍ ظاهرٍ أو قرينةٍ واضحةٍ، فتراه يترقَّب تصرُّفاتها ويريد أن يبرهن على أمرٍ وهميٍّ، وقد يصل به الأمر إلى وضع أجهزة التصوير وأدوات الْتقاط الصوت في بيتها ليكشف عنها من بُعْدٍ، وقد يختار ساعاتٍ غيرَ معتادةٍ للدخول على زوجته، أو يتحيَّن أوقاتًا يترصَّد فيها تصرُّفاتِها بصورةٍ غير طبيعيةٍ ونحو ذلك ممَّا لا يمتُّ بصلةٍ إلى الجانب الممدوح من الغيرة، بل هي غيرةٌ مذمومةٌ شرعًا لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنَ الْخُيَلاَءِ: مَا يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يَبْغُضُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ..»(١١٤)، ولنهيه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم «أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلاً يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ»(١١٥).
هذا، والزوج باعتباره راعيًا على زوجته ومسئولاً عنها ومكلَّفًا بحفظها والقيام على شؤونها لقوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣٤]، وقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «..وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..»(١١٦)، فإنَّ ما تقتضيه حرارة الغيرة أن لا يحسِّن لها الفواحشَ والقبائح والظلم، بل بالعكس يكرِّهها لها ويبغِّضها ولا يزيِّنها لها ويدعوها إليها ويحثُّها عليها، وإذا كان لا يسمح لها بفسادٍ في خُلُقٍ أو دينٍ من جهةٍ فإنَّ الرجل الكريم العدل -من جهةٍ أخرى- لا تحمله شدَّة الغيرة على سرعةِ تنزيل الحكم عليها أو فرض العقوبة من غير إعذارٍ مسبقٍ أو قبول عذرها إذا ما اعتذرت، فإنَّ المنصف يقبل العذر ولو مع شدَّة غيرته، فذلك من كمال العدل والرحمة والإحسان، وكما قيل:
«وَالعُذْرُ عِنْدَ كِرَامِ النَّاسِ مَقْبُولُ **** وَالعَفْوُ مِنْ شِيَمِ السَّادَاتِ مَأْمُولُ».
وقد أكَّد النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم هذا المعنى بقوله: «لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ»(١١٧).
وتبعًا لهذا السياق يقول ابن القيِّم -رحمه الله- شارحًا للغيرة الممدوحة وما يقع فيه العبد موافقًا لربِّه: «وإنما الممدوح اقترانُ الغيرة بالعذر، فيغار في محلِّ الغيرة، ويعذر في موضع العذر، ومن كان هكذا فهو الممدوح حقًّا.
ولَمَّا جمع سبحانه صفاتِ الكمال كلَّها كان أحقَّ بالمدح من كلِّ أحدٍ، ولا يبلغ أحدٌ أن يمدحه كما ينبغي له، بل هو كما مدح نفسه وأثنى على نفسه، فالغيور قد وافق ربَّه سبحانه في صفةٍ من صفاته، ومن وافق اللهَ في صفةٍ من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربِّه، وأدْنَتْه منه وقرَّبْته من رحمته، وصيَّرتْه محبوبًا، فإنه سبحانه رحيمٌ يحبُّ الرحماء، كريمٌ يحبُّ الكرماء، عليمٌ يحبُّ العلماء، قويٌّ يحبُّ المؤمن القويَّ، وهو أحبُّ إليه من المؤمن الضعيف، حيِيٌّ يحبُّ أهل الحياء، جميلٌ يحبُّ أهل الجمال، وترٌ يحبُّ أهل الوتر»(١١٨).
تلك هي الغيرة الواجبة على زوجٍ راسخٍ في مكارم الرجولة يقوم بها تجاه زوجته، ولا يزال أهلُ النخوة من كرام الرجال يقومون بالغيرة على نسائهم حقَّ القيام ويمتدحون بها حفظًا للدين وصيانةً للعرض.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.