سلسلة حلقات اقتصادية – الحلقة 20 : التجارة الدولية (2)
أهمية التجارة الدولية :
للتجارة الدولية أهمية بالغة في اقتصاديات العالم أجمع . ففي الفترات التي يتعذر فيها تبادل السلع والخدمات نلاحظ انخفاضاً ملموساً في مستويات المعيشة Standard of Living ، وذلك لأن مبدأ تقسيم العمل الدولي والتخصص الدولي لا يمكن تطبيقه ، مما يؤدي إلى أن عوامل الإنتاج لا توجه التوجيه الاقتصادي الذي يعود على المجتمع بأكبر منفعة . فلا يمكن للدول المختلفة أن تتوسع في إنتاج السلع التي تتميز في إنتاجها ، وذلك لأنه سيتعذر عليها تصريف الفائض منها في الأسواق الخارجية . كما أن عليها أن تنتج معظم ما تحتاج إليه ، وإلا تعذر عليها الحصول على حاجتها من الخارج .
والأهمية هنا لا تقتصر على الدول الصناعية المتقدمة فحسب ، وإنما تتعداها إلى أهمية التجارة بالنسبة للدول النامية .
كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار نوعية السلع في كل من الدول الصناعية المتقدمة والدول النامية ، ذلك أن الغالب في صادرات الدول الصناعية هي السلع التامة Finished Goods الصنع كالسيارات والمعدات والآلات الدقيقة منها وغير الدقيقة ، أي السلع التي يبذل في سبيل إنتاجها الكثير من الجهد العمالي ورؤوس الأموال . أما صادرات الدول النامية فذات طابع خاص وهو المادة الأولية Raw Materials ، مثال ذلك : النفط والقصدير والفوسفات والمعادن الأخرى المماثلة ، ثم أنواع من المنتجات الزراعية المختلفة كالشاي والبن والمطاط والقطن وما إلى ذلك من المنتجات .
إن صادرات Exports الدول الصناعية هي بعينها واردات Imports الدول النامية ، والعكس صحيح . بمعنى أن الآلات والسيارات التي هي صادرات الدول الصناعية تصبح واردات الدول النامية ، وأن المادة الأولية والسلع الغذائية التقليدية هي واردات الدول الصناعية من الدول النامية .
هذه الحقيقة البديهية هي التي تمهد لأهمية التجارة الدولية بالنسبة لكل من الدول المتقدمة والنامية على السواء . فطالما أن الدول الصناعية المتقدمة لا بد لها من استيراد المادة الأولية من الدول النامية لأنها لا تملك هذه المادة ، تصبح التجارة الخارجية بالنسبة لها هامة وأساسية . وطالما أن الدول الصناعية المتقدمة وهي ورشة العالم تنتج من السلع التامة الصنع ما يكفيها ويفيض ، فكان لها أن تصدر هذه السلع إلى الخارج ، وهنا أيضاً تصبح التجارة الخارجية بالنسبة لها هامة وأساسية أيضاً .
وأهمية التجارة بين دول العالم هي في واقع الأمر أهمية نسبية ، بمعنى أن الأهمية هنا ليست متساوية بين الدول ، فهناك دول تعتبر التجارة الخارجية بالنسبة لها هامة للغاية كاليابان ، بينما دول أخرى تقل فيها هذه الأهمية بشكل ملحوظ .
التجارة الدولية والتنمية الاقتصادية :
هناك علاقة وثيقة بين التنمية الاقتصادية Economic Development ، كهدف اقتصادي واجتماعي للدول النامية ، وبين التجارة الدولية International Trade . فالتنمية الاقتصادية والارتفاع بمستوى الدخل القومي يؤثر في حجم ونمط التجارة الدولية ، كما أن التغيرات التي تحدث في ظروف التجارة الدولية تؤثر بصورة مباشرة في تركيب الدخل القومي وفي مستواه .
والتنمية الاقتصادية التي تهدف إليها كل الدول المتقدمة والنامية على السواء هي في توليد الحركة والتوسع Expansion في الاقتصاد القومي عموماً ، وهذه الحركة تدعو إلى تنشيط الحياة الاقتصادية ، وإلى زيادة معدلات النمو . فإذا نظرنا إلى التجارة الدولية عموماً فسنجد أنها تؤثر على توليد النشاط والحركة في قطاعات التصدير إلى الخارج . كذلك تعمد التجارة الدولية إلى جلب الموارد النقدية الأجنبية ، لاستيراد المعدات الرأسمالية من الخارج وتشغيل الخبراء الأجانب ، ولذلك تدفع خطى التنمية الاقتصادية قدماً إلى الأمام .
والتجارة الدولية لدولة ما تزيد وتتوسع بزيادة وتوسع نموها الاقتصادي ، ذلك أن التوسع في التجارة هو المؤشر الفعال الدال على حدوث التنمية الاقتصادية ، ويدل التاريخ الاقتصادي لجميع الدول الصناعية المتقدمة على صحة هذه العلاقة . فالتاريخ الاقتصادي لإنكلترا وألمانيا وفرنسا واليابان مثلاً يشير على أن نمو وزيادة الناتج القومي قد صحبته زيادة متزامنة في حجم التجارة الخارجية لهذه الدول .
والتنمية الاقتصادية في معناها العام هي إنتاج سلع أكثر وأفضل ، فإذا تحقق هذا الهدف عندئذ تزيد قدرة الدولة على التصدير إلى الخارج . كذلك فإن التنمية تتضمن تحقيق ارتفاع ملحوظ في مستوى الاستثمار في المشاريع الصناعية والزراعية ، والنتيجة هي زيادة كبيرة في الدخل القومي وفي نصيب الفرد من الدخل . ومن ثم وكنتيجة لهذه الزيادات كلها ، فلا بد من حدوث زيادة في الطلب على السلع الاستهلاكية ، والتغيرات في الاستهلاك والاستثمار لا تزيد من النشاط الاقتصادي المحلي فحسب ، وإنما تؤدي كذلك إلى زيادة النشاط والحركة في المجال الخارجي ، أي زيادة الصادرات والواردات .
والخلاصة أن التجارة الدولية على درجة كبيرة من الأهمية في الوقت الحاضر ، سواء بالنسبة للدول الصناعية التي قطعت مرحلة طويلة من التقدم الصناعي ، أم للدول النامية التي لم تزل بعد في أول الطريق .
أسباب التجارة الدولية :
إن السبب الرئيسي لقيام التبادل الدولي هو اختلاف الأسعار ، أي اختلاف نسب تكاليف إنتاج السلع من دولة إلى أخرى . فكثيراً ما نجد أن دولة ما تستورد بعض السلع من الخارج بالرغم من إمكانية إنتاجها محلياً ، وذلك لأن تكاليف الإنتاج المحلي قد تكون أعلى .
النظرية الحديثة للتجارة الدولية :
اقتصرت النظرية القديمة ( الكلاسيكية ) في التجارة الدولية على تفسير قيام هذه التجارة على التكاليف النسبية ، فاختلاف تلك التكاليف يدعو إلى قيام التبادل بين الدول ، إلا أنها لم تتعرض لأسباب هذا الاختلاف ، مما استدعى وجود نظرية جديدة يرجع الفضل في صياغتها إلى الاقتصادي السويدي أولين .
وتختصر هذه النظرية بأن قيام التخصص الدولي International Specialization ( تخصص كل دولة بإنتاج السلع الأقل كلفة والأفضل إنتاجاً ) يرجع إلى توفر عاملين هما :
1- وفرة Abundance وندرة Scarcity عوامل الإنتاج : تختلف الدول فيما بينها من ناحية توفر عناصر الإنتاج المختلفة ، فتتوفر الأرض في بعض الدول دون توفر العدد اللازم من الأيدي العاملة والقدر اللازم من رؤوس الأموال ( كالدول المتخلفة ) ، وتتوفر في بعض الدول الأخرى الأيدي العاملة بقدر أكثر من رؤوس الأموال والأرض ( كمعظم الدول النامية ) . ومن البلاد ما تتوفر لديها نسب ملائمة من العمال المدربين ورؤوس الأموال والموارد الطبيعية ( كالولايات المتحدة ودول صناعية أخرى ) .
واختلاف نسب عناصر الإنتاج ( الأرض Land ، الأيدي العاملة Labors ، رؤوس الأموال Capitals ) يؤدي إلى اختلاف الأجور . فالبلاد المكتظة بالسكان مثل الصين ومصر تنخفض فيها مستويات الأجور . والبلاد التي توجد فيها وفرة من الأراضي الزراعية الخصبة كما في كندا تنخفض فيها أثمان الأراضي . ومن البلاد كذلك ما تتوفر لديها رؤوس أموال مما يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة فيها . كل هذا يؤدي إلى اختلاف تكاليف إنتاج السلع والخدمات في الدول المختلفة ، وهو ما ينعكس بدوره على الاقتصاد العام .
2- تناقص الكلفة Decreasing Cost وتزايد العائد Increasing Return بالتوسع في الإنتاج :
قد تقوم التجارة الخارجية بين بلاد لا تختلف في الوفرة النسبية لعوامل الإنتاج في كل منها ، ويرجع ذلك إلى أن بعض الدول تتوسع في إنتاج بعض السلع وعلى الأخص من المنتجات الصناعية ، ولا تلائم الظروف في بعض الدول الأخرى الإنتاج الكبير مما يؤدي إلى ارتفاع نفقات إنتاجها وبالتالي تقوم باستيراد هذه السلع بدل إنتاجها . ويمكن القول إذاً أن اختلاف حجم المشاريع وبالتالي كلفة الإنتاج يؤدي إلى قيام التبادل بين الدول الصناعية ، ومثال على ذلك هو التبادل التجاري الدولي الصيني ، والتبادل التجاري الياباني .
ويمكن توجيه انتقادين رئيسيين إلى هذه النظرية :
أ- يفترض في نظرية التجارة الدولية سريان مبدأ المنافسة الحرة ، إلا أننا نعلم استحالة ذلك في الحياة العملية ، فظروف الإنتاج تسودها مبادئ الاحتكار Monopoly وحالاته المختلفة ، ومبادئ المنافسة الاحتكارية إلى جانب مبادئ المنافسة .
ب- المفروض أن التجارة الخارجية تعود بالربح على جميع الدول ، إلا أنه تبين للعالم أنه في حالات عديدة يتعين اتباع سياسات اقتصادية تحول دون قيام التجارة الدولية أو تؤدي إلى تشجيع إنتاج بعض السلع بدلاً من استيرادها . فالسياسة التجارية السليمة كثيراً ما تتطلب فرض رسوم جمركية Custom Taxes وتحديد المستورد من بعض السلع ومنح بعض المنتجين إعانات Subsidies للتوسع في الإنتاج .
الآثار الاقتصادية للتجارة الدولية :
تؤثر التجارة الدولية على أسعار السلع والخدمات ، فالتجارة تؤدي إلى انسياب السلع من المناطق التي تتوفر نسبياً فيها إلى المناطق التي تندر فيها نسبياً . والمفروض أن تؤدي التجارة إلى إحداث تكافؤ في أسعار السلع في الدول المختلفة ، إلا أن نفقات النقل والرسوم الجمركية تؤدي إلى قيام فروق ملموسة في مستويات الأسعار في الدول المختلفة . ويجب أن لا يزيد الفرق في أثمان السلع عن تكاليف النقل ( وهي كلفة طبيعية ) زائد الرسوم الجمركية ( وهي كلفة صناعية ) .
والأثر الاقتصادي الهام للتجارة الدولية هي أنها تعمل على تحقيق التكافؤ بين عوامل الإنتاج المختلفة ( الأرض والأيدي العاملة ورؤوس الأموال ) ، وتؤدي إلى قيام التخصص الدولي من أجل إنتاج سلع أفضل وأقل كلفة .