بالتفكير الراقي نرتقي للمعالي
بالتفكير الراقي نرتقي للمعالي
للإمام مالك رحمه الله
كيف وصل الإمام مالك إلى ما وصل إليه؟
وهل يمكننا أن نصل إلى ما وصل إليه؟
تكلمنا في الحلقة السابقةعن المحور الأول (ماذا قالوا عنه)
وسنتكلم الآن عن المحور الثاني:الحوار الناجح وفن الاقناع
حوار بين الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن
يخبر الإمام الشافعي قائلاً:
قال محمد بن الحسن:أيما أعلم صاحبنا أم صاحبكم يعني أبا حنيفة ومالكاً؟
قلت :على الإنصاف؟!قال : نعم.
قلت: أنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم؟قال : اللهم صاحبكم.
قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم.
قال: اللهم صاحبكم
قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدمين صاحبنا أم صاحبكم؟
قال: اللهم صاحبكم
قلت : فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء
تأملات في الحوار بين الإمامين
إذا تأملنا هذا الحوار نجد أسساً هي في غاية الروعة والرقي لإثبات الأمر (الحجة) بكل هدوء وثقة وذلك من لسان الطرف الآخر.
الإمام الشافعي
الشيخ محمد بن الحسن
تلميذ الإمام مالك
تلميذ أبو حنيفه
وقد يقال من الطبيعي عنهما أن يتعصب كل منهما لشيخه
ثقة الإمام في شيخه كبيرة
ثقة الإمام في شيخه كبيرة
السائل هو محمد بن الحسن
المجيب هو الإمام الشافعي
ومن هنا نبدأ :
سؤال محمد بن الحسن من أعلم صاحبنا أم صاحبكم؟
أجاب الإمام: (أتريد الإنصاف؟.. بمعنى تريد الحقيقة أم المجاملة)
وهنا توضيح المنهج وأساس الحوار الذي سيسيران عليه ،
بما أن الشيخ محمد بن الحسن هو طالب علم أجاب بل الإنصاف
(اتفاق على منهج سير الحوار)
هنا بدأ الإمام الشافعي للدخول في الحوار البناءفاستنطق
الشيخ محمد بن الحسن في حوار هادئ ومبني على أساس العلم
فكان أول حديثهأنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أم صاحبكم )
تأملوا معي أحبابي إلى هذه العبارة السابقة:
بداية الجملة ونهايتها حيث وجه إليه الكلام بكاف الخطاب
وهي تعني الكلام مع الطرف نفسه في الموضوع مباشرة
فلم يعمم الإمام لا بلد الشخص ولا قبيلته ولا جميع أساليبه في التدريس،
بل حدد الإمام الموضوع الأول المتفق عليه طبيعة عند الطرفين
(القرآن ، السنة ، ثم أقاويل الصحابة ، ثم القياس)
وما كان من الرجل المنصف إلا وأن يشهد بالفضل للإمام مالك رحمه الله
في كل مرة.
والدرس الذي نستفيده مما سبق:
يكمن في الحوار الهادئ بعدة ضوابط (فن الحوار والإقناع ) :-
1.عدم الافتخار والاعتزاز بالرأي والتعالي على آراء الآخرين
، إلا إذا كانت لحكمة مع إنصاف كإظهار فضيلة غائبه
أو معروف قد اندثر كما جرى مع الشيخمحمد بن يوسف.
2.شرط إقامة الحوار: الإنصاف وإقامة الحق
وهذا ما فعله الإمام الشافعي بقوله (على الإنصاف)
3.الاحتكام والاستدلال بالأمور المتفق عليها عند الطرفين
(القرآن ، السنة ،.....) وهذا ما فعله الشافعي.
4.استخراج الجواب الذكي من فم الطرف الآخر
من غير إثارة حزازية في النفس أو إظهار قوة حجة على الطرف المقابل ،
حيث قال الإمام فلم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء)
فلم يوجه إليه اتهام أو كلمة استعلاء بقوله
(شيخي إذن أفضل ، كلاُ مي إذا حجه ، _ لا تماشيني)
5.اعتراف الطرف الآخر بكل بساطة وبدون حرج.
الحوار في بيوتنا
ولنأخذ مما سبق على واقع حياتنا اليومية بين أصحابنا وأخواننا
بل في بيوتنا فتجد الابن بين الأبوين إذا قلنا أن كلا قول الوالدين صحيح
إلا أن أحدهما أصح فلا تجد أحدهما يعترف برأي الآخر بل ربما يسفه رأيه ويحطمه مكابرة وعناداً.
وبالتالي نتيجة لذلك:
ينشأ الطفل ولديه النزعة الاستقلالية المبنية على الهوى والأنانية
وحب الذات بل وتهميش رأي الغير مهما كان رأي الغير صحيحاُ
والسبب الحقيقي في ذلك :
قرارات الوالدين التعصبية . بل على العكس ربما يأتي الولد
برأي أكثر نضجاً وأحسن فكراُ فلا يجد منهما سوى التحطيم
وتسفيه الرأي، كقولهم مثلاً
(ما زلت صغيراً ، أنت لا تفقه شيئاً ، هذه الأمور كبيرة عليك.... )
وهكذا نجد الكبار هم السبب في إنشاء جيل لا يستطيع إبداء رأيه بكل حرية وثقة مما ينشئه شخصا معدوم الثقة بل ربما يجهل حسن التصرف في كثير من الأمور الحياتية.
الحوار في عصر النبوة
وإذا عدنا إلى عهد الصحابة الزاخر بالفضائل لعلمنا سر تفوق أبنائهم
في المواقف مثل:
1: موقف أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم مع أمه.
2: موقف عبدالله بن عمر الخطاب مع أبيه عند النبي صلى الله عليه وسلم.
3: موقف الغلامين في غزوة بدر اللذان أرادا المشاركة في الغزوة.
4:موقف ابن عباس مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في حشد من الصحابة الكبار.
والمواقف لبناء الشخصية المتزنة عديدة وسوف نذكر تفصيل اثنين مما سبق:
قصة الصحابي أنس بن مالك.
وقصة الغلامين في غزوة أحد.
1. الموقف الأول : قصة الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه
عندما ذهب في حاجة (مهمة) خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ،
سألته أمه وهي أقرب الناس إليه وهو مازال صغيرا في سنه
إلا أنه كبيرا بعقله ويجيد التصرف الحسن
أجاب الابن أمه قائلاُ بأدب واحترام :
ما كان لأنس أن يفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ماذا فعلت الأم حينها هل استعطفت الابن لكي يفشي السر
أو أجبرته على إفشاء السر؟!
بل على العكس قالت له مشجعة ومقدرة له:
لاتخبرنَّ بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا
فالشيء الذي يتربى عليه أن يكون خازناًُ وكاتماً للأسرار عند حسن ظن الغير به ، يؤتمن عليه (وبالتالي ينشأ على حب فضيلة الأمانة)
2.الموقف الثاني: قصة الغلامين في غزوة أحد
في الإصابة عن سمرة بن جندب أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد وعرضأصحابه فرد من استصغر، ورد سمرة بن جندب وأجاز رافع بن خديج ،فقال سمرة لربيبه - زوجأمه- مري بن سنان :يا أبت أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني،وأنا أصرع رافع بن خديج،
فقال مري: يا رسول الله، رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابنييصرعه،
فقال رسول الله لرافع وسمرة:
: "تصارعا" فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله صلىالله عليه وسلم مع المسلمين..
وفي رواية أخرى: قال سمرة بن جندب لما استصغره رسول الله :
يا رسول الله لقد ألحقته (يعني رافعاً) ورددتني ولو صارعته لصرعته
، قال: فصارعه. فصارعته فصرعته فألحقني"
والسؤال كيف كان تصرف الرسول r و الأب هنا ؟
هل قال له ربيبه :لازلت صغيرا أو أنت لا تفهم شيئا أو الرسول الأعظمr
يتنزل عليه الوحي
و هو أعلم مني ومنك؟ كلا. لم يقل شيئاُ من ذلك .
بل كان واثقاً من قدرات إبنه ولم يستصغر سنه و ذهب للنبي r وتشفع له،
فما كان من النبي العادل إلا أن سمع رأيه وأنصفه.
نستنبط من هذه القصة:
أن الرسول صلى r سمع للغلام بكل هدوء ورويه وأنصفه
رغم صغر سنه وانشغال النبي بأمور الجهاد.
كما أن مري بن سنان لم يحقر من شأن ربيبه سمرة رضي الله عنهما
واستصغره بل أيَّده في ذلك وشجعه.
فهل هذا ما يحدث في بيوتنا؟
ومن أمثلة الصحابة الكرام نستنتج المعادلة التالية
بالتفكير الراقي نرتقي للمعالي=
الانصات الواعي للمطلوب + التأكد من منهجية الطلب +
تشجيعه وتنفيذه على الفور =
شخصية قادرة على تحمل المسئولية واتخاذ القرار