انتهت حروب أزهار الكرز، إلا أن مسألة أيهما يصب في مصلحة الانتعاش طويل الأجل في اليابان، الإنفاق أم الادخار، أكثر بقاء من البتلات الرقيقة التي تناثرت الآن بفعل الرياح.
الاقتصاد في النفقات سيكون وصفة للركود في اليابان
وبالنسبة لأولئك الذين فاتتهم المناوشات الأيديولوجية بشأن وجهات النظر المتعلقة بأزهار الكرز، فقد أطلق الطلقة الأولى شينتارو إيشيهارا، محافظ طوكيو، كثير التباهي وغير المنظم، البالغ من العمر 78 عاماً، الذي تم انتخابه لفترة رابعة هذا الشهر رئيسا لأكبر عاصمة في العالم. وعادة يطلق تفتح البتلات الصغيرة موجة من الحفلات الصاخبة تحت أشجار الكرز في العاصمة، إلا أن إيشيهارا أخبر أهل طوكيو بأن من الخطأ الاحتفال الآن بعد الزلزال المدمر. وقال الرجل الذي عزا في وقت سابق الكارثة الطبيعية إلى انتقام إلهي بسبب جشع الشعب الياباني: ''تفتح أزهار الكرز لا يعني أن علينا الشرب وقضاء وقت ممتع''.
وسرعان ما عارض ناوتو كان، رئيس الوزراء، رسالة إيشيهارا، قائلا إنه قد حان الوقت كي يبدأ اليابانيون بالإنفاق من أجل مصلحة الاقتصاد. وقال كاورو يوسانو، وزير السياسة الاقتصادية والمالية، إن الاقتصاد في النفقات وضبط النفس الذي تبناه اليابانيون بعد كارثة الشهر الماضي أشبه بـ ''حركة للتسبب في الركود''.
وقد تمت إقامة حفلات مشاهدة الكرز، وإن كان على نطاق أصغر من المعتاد، إلا أن مسألة ضبط النفس مقابل الإنفاق كالمعتاد لا تزال قائمة. ويتركز النقاش على وجهتي نظر، إحداهما اقتصادية والثانية فلسفية تقريبا.
ولنأخذ الأخيرة أولا، فحتى مع الفائض في سنوات الفقاعة في الثمانينيات، حين كان بعض اليابانيين يرُشون طعامهم بأوراق الذهب، كان المجتمع يحافظ على مسحة قوية من الرصانة. وكان الناس لا يزالون يأكلون عظام السمك كوجبات خفيفة، ويتجنبون التدفئة المركزية في منازلهم، ويستخدمون طاولات الكي التي بحجم الأطباق ودون أرجل لتوفير المساحة في شققهم المتواضعة.
ويقول أكيرا تشيبا، وهو موظف في الخدمة المدنية: ''نتعلم كأطفال أن علينا شكر المزارع على كل حبة من الأرز. الإسراف يجعلك تشعر أن هناك أمراً غير طبيعي في سلوكك''. والدافع إلى الحذر وعدم الإسراف استعاد الزخم منذ الزلزال. فالناس يحملون حقائبهم على سلالم غير متحركة في المحطات ولا يفتحون أبواب ثلاجاتهم إلا عند الضرورة بهدف توفير الكهرباء. ويتجنب كثيرون المطاعم الفاخرة، لأن تناول الطعام في مثل هذه الأماكن سيكون غير لائق في الوقت الذي يعاني فيه أشخاص آخرون في الملاجئ.
ويتبادر إلى الذهن الاعتقاد بأن الدافع للعيش حياة أقل رفاهية لن يتلاشى تماما مع انتعاش البلاد. فحركة ''الحياة البطيئة''، الكبيرة بالفعل، ستنشط أكثر مع رؤية الناس بعد الزلزال أساليب حياة أقل رفاهية. وقد تكون الحكومة اليابانية أيضا الرائدة في اللجوء إلى طرق مختلفة لقياس الناتج القومي: هل تسهم مباراة بيسبول تقام في النهار بشكل أقل في الناتج المحلي الإجمالي من مباراة تقام في الليل مع إضاءة أنوار الملعب؟
إلا أن الجدل بشأن ضبط النفس مقابل الإنفاق له بعد اقتصادي مباشر وأكثر إلحاحا. تشير تقديرات ماساكي كانو، كبير الاقتصاديين في بنك جيه بي مورجان في طوكيو، إلى أن الحكومة ستوافق هذا العام على إنفاق طارئ إضافي يبلغ نحو 14 ألف مليار ين، إضافة إلى 92 ألف مليار ين من النفقات المدرجة في الميزانية بالفعل.
ولا يشك أحد في أن الأموال الإضافية الضخمة ستكون ضرورية لإعادة بناء البنية التحتية في المنطقة الشمالية الشرقية المدمرة. والسؤال هو: كيف سيتم دفع ثمنها؟ ويريد البيروقراطيون في وزارة المالية ـــ وكثير منهم من المتقشفين الملتزمين بضبط النفس ـــ تمويل بعضها من تخفيضات الإنفاق في مجالات أخرى ومن ضرائب إعادة الإعمار الخاصة. ويقول بول شيرد، كبير الاقتصاديين في بنك نومورا، إن هذا سيكون عملا يتسم بالحمق. فالدولة كما يقول، أمامها ''فرصة ذهبية'' لتخليص نفسها من الانكماش وإعادة إنعاش اقتصادها، إذا زاد بنك اليابان مشترياته الكبيرة بالفعل من السندات الحكومية في السوق الثانوية.
ويشير شيرد إلى أنه، خلافا للتصور الشائع، فإن اليابان ليست مَدينة. بل على العكس، هي ثاني أكبر دولة دائنة في العالم. وفي كل عام، مع وجود فائض في الحساب الجاري يقارب 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، تضيف إلى مطالبها للأصول الأجنبية. وكومة الديون الإجمالية اليابانية التي اشتُهِرت بأنها تصل إلى 200 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، هي ما تدين به الحكومة لقطاعها الخاص. وعلى عكس اليونان، أو الولايات المتحدة، مشكلة الديون في اليابان مسألة عائلية.
ولا شك أن الاقتصاد الياباني يحتاج إلى المساعدة. ففي نيسان (أبريل) سجل استطلاع تانكان ـــ وهو دراسة تجريها شهريا وكالة رويترز نيابة عن بنك اليابان لمعرفة المزاج العام لدى الشركات ـــ أكبر انخفاض على الإطلاق، بتراجعه 28 نقطة إلى سالب 13. وأظهرت أرقام صادرة هذا الأسبوع أن ثقة المستهلكين في حالة انهيار. وانخفض توقع النمو من قبل المحللين عن السنة المالية 2011 من 1.6 في المائة قبل الزلزال إلى 0.4 في المائة.
ويرى فريدريك نيومان، كبير الاقتصاديين في بنك HSBC، أن مزاج الناس سيكون حاسما. ويقول: ''لا يتعلق الأمر كثيرا بالتدمير الذي لحق بالبنية التحتية المادية، بل بالجرح الذي خلفته الأحداث الأخيرة على النفسية الوطنية''. ويعود جزء من ضبط النفس لهذا الجرح، وجزء آخر للنزعة المثالية. ولن يعترض كثيرون على المشاعر المثيرة للإعجاب التي تحفز ضبط النفس هذا. إنها حالة أخرى من: ''اجعلني فاضلا. ولكن ليس بعد''.