الآن الوقت المناسب لطي صفحة القاعدة
إذن تم القضاء أخيراً على أكثر رجل مطلوب في العالم، ليس في مكان ناء حصين في الجبال الوعرة، وإنما في منطقة سكنية لا بأس بها، يسكنها أناس من الطبقة الوسطى في مدينة جبلية وادعة في باكستان، وهي مدينة تَعمَّد مؤسسوها الاستعماريون في منتصف القرن التاسع عشر تقليد المناطق السكنية في بلدهم بريطانيا. إذا كان هناك مزيد من الأدلة على شهرة وبريق زعيم القاعدة، فإن الفيلا الضخمة التي كان يختبئ فيها في أبوت أباد تقع بالضبط بالقرب من أشهر كلية عسكرية باكستانية وبالقرب من سوق مشهور. ظل أسامة بن لادن ثلاثة عقود وهو يشغل مخيلة المسلمين في جميع أنحاء العالم، وكان الشوكة التي تدمي خاصرة الجيوش ووكالات الاستخبارات العالمية. حين وصل إلى مدينة بيشاور في أوائل الثمانينيات، ومعه معدات البلدوزر وملايين أسرته التي اكتسبتها من صناعة الإنشاءات، لبناء الملاجئ والكهوف للمجاهدين الأفغان، لم يكن بإمكان أي شخص أن يظن أن هذا الشخص النحيل والخجول، لكن ذي الشخصية الآسرة، بإمكانه تغيير العالم. لكنه فعل.
إن من يقتل ثلاثة آلاف شخص في ضربة واحدة، كما فعل أتباعه في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ثم يلوح للولايات المتحدة ويتحداها لتلاحقه، هو شخص يتسم بجنون حماسي مذهل. وقد أصبح هذا شعار القاعدة: ''نحب الموت أكثر مما نحب الحياة''. وكانت جاذبيته في الدوائر المتطرفة تزداد في الوقت الذي كان يبدو فيه أن جميع جيوش العالم لم يكن بمقدورها التصدي لحرب من هذا القبيل. كما أن قدرته على تجنُّب إمكانيات الولايات المتحدة من القوات الخاصة والاستخبارات والطائرات من دون طيار سجلت نوعاً آخر من الأرقام القياسية في الدوائر الجهادية. ويعتقد الجهاديون الآن أكثر من أي وقت مضى أن زعيمهم كان في رعاية الله وحفظه. حتى في الوقت الذي انهارت فيه القاعدة كمنظمة لها هيكل محدد بعد الإطاحة بطالبان، وحتى في الوقت الذي توقف فيه بن لادن عن إدارة العمليات أو إعطاء الأوامر، واصلت القاعدة انتشارها إلى العراق وشمالي إفريقيا وأوروبا حتى إلى الولايات المتحدة، حيث حاولت مجموعة قليلة من المسلمين سلوك ''طريق الشهادة''. لكن لم يعد هناك وجود للقاعدة، أو منظمة قائمة متماسكة، أو حتى فلسفة تطورت منها. والذي انتشر بدلاً من ذلك في أعقاب 11/9 هو فكرة الموت والشهادة والقضاء على أكبر عدد ممكن من الكفار ليُقتَلوا معك. أصبحت القاعدة سلسلة غير متماسكة من العصابات الصغيرة، حتى إن بقي التهديد، وهو بالتأكيد تهديد يظل قائماً، حين يكون بإمكان رجل واحد فقط في تايم سكوير (في وسط نيويورك) إحداث حالة من الهلع وإثارة إمكانية حدوث حمام الدم الذي شهدناه في 11/9. وفي حين أن بن لادن لم يعد قائداً منذ فترة طويلة، إلا أنه بالنسبة لكثير من الناس لا يزال رمزاً للشهادة والفوضى العنيفة. ولا يوجد شخص يمكن أن يقارَن به في التاريخ الإسلامي. أدت الفوضى التي خلقها إلى انقسام العالم الإسلامي إلى متطرفين ومعتدلين، وهو أمر لم يقم به أي مسلم على هذا النطاق من قبل. كذلك أحدث مزيدا من الانقسام الديني، حين اعتبر أن ملايين المسلمين إنما هم من الكفار؛ لأنهم لم يتَّبِعوا طريقته في اختزال الفكر الإسلامي إلى فكرة وحيدة هي فكرة الجهاد. والواقع أن الشباب الموجودين في قلب الثورة العربية الآن، لا يثورون في سبيل الجهاد وإنما في سبيل الحرية والديمقراطية. وينبغي ألا ننسى أن إخفاق بن لادن في كسب التأييد في العالم العربي، على الرغم من محاولاته المتكررة على مدى 30 عاماً، أدى إلى الرفض شبه التام للفكرة الجهادية العالمية من قبل المسلمين. مع ذلك، فإن تركته ستلقي بظلالها على العالم الإسلامي لمدة جيل. وسنسمع مباشرة من أتباعه الذين سيُنَفِّذون في الأيام المقبلة هجمات انتقامية حول العالم. وعلى وجه الخصوص علينا أن نتوقع هجمات انتحارية في أفغانستان وباكستان والشرق الأوسط. ثانياً، لن يختفي الجهاد الذي تبناه بن لادن؛ لأنه ضرب بجذوره لدى عدد يفوق الحد من الجماعات الطرفية. لقد تم كبح جماح الطموحات السياسية لهذا الجهاد، لكنه على مستوى أرحب يعمل في بعض المجتمعات الإسلامية على تفريخ عدم التسامح ضد المسيحيين واليهود والأقليات الدينية الأخرى، وحتى ضد بعض المعتقدات داخل الإسلام. مع ذلك، فإن موته يعطي فرصاً هائلة عبر الكرة الأرضية. والرئيس باراك أوباما في حاجة إلى أن يواصل العمل على وعوده التي أطلقها في القاهرة قبل سنتين، حين تعهد ببناء جسور مع العالم الإسلامي. إن أهم عمل بالنسبة للأمريكيين هو الدفع باتجاه تسوية عادلة ومنصفة بين إسرائيل والفلسطينيين، حتى في الوقت الذي يتعين فيه على الغرب أن يعيد تعريف نفسه بوصفه الصديق الودود للمجتمعات العربية الخارجة من حطام الدكتاتورية. كذلك سيؤدي موت بن لادن إلى تسهيل المحادثات بين طالبان وحكومة كابول والأمريكيين. ولأن بن لادن ميت الآن فإن طالبان ليست مدينة للقاعدة بأي شيء. واصلت القاعدة تمويل وتدريب طالبان بعد انهيارها عام 2001. لكن الجيل القديم من زعماء طالبان أخذ منذ فترة طويلة يشعر بالضيق والتبرم من غطرسة الجهاديين العرب. تريد طالبان العودة إلى بلادها وهي محررة من الأجانب، بما في ذلك الأمريكيين، لكنها لا تريد، مثلا، تفجير محال السوبر ماركت أو السفارات في العواصم الغربية. وتجدر الإشارة إلى عدم ضلوع أي أفغاني من طالبان في الجهاد العالمي. وبالنسبة لطالبان أصبح من السهل تماماً عليها الآن أن تنبذ صلاتها بالقاعدة وتتفاوض بوصفها من أفغانستان وليس ولكونها في جهاد دولي. ويتعين على الناتو وجيران أفغانستان أن يتحركوا بسرعة لاتخاذ إجراءات عسكرية وسياسية من شأنها مساعدة الرئيس حامد كرزاي على التفاوض مع طالبان لإنهاء حرب مستمرة منذ 33 عاماً. كذلك يتعين على باكستان، التي أصبحت مكاناً لتفريخ ونشر التطرف وعدم التسامح، أن تهتبل هذه المناسبة بوصفها فرصة للتحرك في اتجاه جديد. إن تحديد مكان عرين بن لادن يبرز خطوط الصدع المنتشرة في قوات الأمن والمخابرات. وبالنسبة لبعض الباكستانيين كان بن لادن بطلاً؛ لأنه تحدى الغرب؛ ولأن باكستان كانت تفتقر بشدة إلى الأبطال. ولعله سيكون بمقدور زعماء باكستان الآن أن يتمتعوا بالشجاعة لقلب الأسطورة وإظهار بن لادن على حقيقته، أي مجرد متطفل سياسي أدخل التفجيرات الانتحارية، وساعد على خلق طالبان باكستان، وعزز عدم التسامح في بلد كان يتمتع بسلام نسبي مع نفسه إلى أن ظهر بن لادن على المسرح. إن الانتصارات الاستعمارية التي حققها الغرب على المجتمعات الإسلامية أعقبها نضال من أجل الحرية، وبعد ذلك جمود وقمع. وبرز بن لادن وهيمن على الساحة في الوقت الذي كان فيه المسلمون يبحثون عن سبيل للخروج، وكان هو يسعى إلى إعادتنا عدة قرون إلى الوراء. والآن يتعين على المسلمين أن يعثروا على طريق للخروج من هذا المأزق المتطرف. إن أبطال التطرف أموات، أو في النزع الأخير، أيديولوجيته مفلسة. لكن يتعين على زعماء المجتمع المدني المسلم الآن أن يتحلوا بالجرأة ويدفعوا بالتطرف إلى موقع ثانوي، حتى يصبح بإمكاننا مرة أخرى، كما قال محمد علي جناح، مؤسس باكستان، في عام 1947، أن نذهب إلى المساجد والمعابد والكنائس ونتعبد ونعيش بحرية. هذه لحظة تاريخية فاصلة. والسؤال المهم هو: هل يستطيع الغرب والعالم الإسلامي استيعابها وفهمها؟
الكاتب مؤلف ''الانحدار إلى الفوضى و طالبان'' Descent into Chaos and The Taliban