النهضة الثقافية في الدولة العباسية
من الطبيعي ان يكون العصر العباسي الأول أنسب العصور ملائمة للنهضة الثقافية، فقد بدأ الاستقرار فيه وأنتظم ميزان الأمة الاقتصادي، وكانت النهضة العلمية في العصر الأول تتمثل في ثلاثة جوانب هي:
حركة التصنيف
تنظيم العلوم الإسلامية
الترجمة من اللغات الأجنبية
الجانب الأول: حركة التصنيف من أشهر المصنفين في هذا العصر مالك الذي ألف الموطأ، وابن إسحاق الذي كتب السيرة، وأبو حنيفة الذي صنف الفقه والرأي. ويرجع إلى أبي جعفر المنصور الفضل في توجيه العلماء هذا الاتجاه، وقد كان المنصور كما يقول السيوطي كامل العقل، جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيها تلقى العلم عن أبيه وعن عطاء بن ياسر. وتطورت العلوم في العصر العباسي الأول وانتقلت من مرحلة التلقين الشفوي إلى مرحلة التدوين والتوثيق في كتب وموسوعات.
الجانب الثاني: تنظيم العلوم الإسلامية وصلت العلوم الإسلامية درجة عالية من الدقة والتنظيم في العصر العباسي الأول:
فقد شهد هذا العصر ميلاد علم تفسير القرآن وفصله عن علم الحديث. وعاش في هذا العصر أئمة الفقه الأربعة: أبو حنيفة (150 للهجرة)، ومالك (179 للهجرة)، والشافعي (204 للهجرة)، وابن حنبل (241 للهجرة). وظهرت في الفقه الإسلامي مدرستان علميتان كبيرتان هما مدرسة أهل الرأي في العراق، ومدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة. وحفل هذا العصر أيضًا بأئمة النحو وظهرت في علوم اللغة مدرستان علميتان هما: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، فقد عاش في هذا العصر من أئمة النحاة البصريين عيسى بن عمر الثقفي (149 للهجرة)، وأبو عمرو بن العلاء (154 للهجرة)، والخليل بن أحمد (175 للهجرة)، والأخفش (177 للهجرة)، وسيبويه (180 للهجرة)، ويونس بن حبيب (182 للهجرة)، ومن الأئمة الكوفيين أبو جعفر الرؤاسي، والكسائي، والفراء (208 للهجرة). التاريخ ومولده: قويت في العصر العباسي الأول فكرة استقلال علم السيرة عن الحديث، ووجدت من ينفذها تنفيذا علميا دقيقا، وهو محمد بن إسحاق (152 للهجرة تقريبا) وكتابه في السيرة من أقدمها في هذا الموضوع، وقد وصلنا هذا الكتاب بعد أن اختصره ابن هشام (218 للهجرة) في كتابه المعروف بسيرة ابن هشام، ومن أشهر من صنف في التاريخ في هذا العصر العلامة محمد بن عمر الواقدي (207 للهجرة تقريبا) فقد ألف كتاب التاريخ الكبير الذي اعتمد عليه الطبري كثيرا حتى حوادث سنة 179، أما الكتاب نفسه فلم يصح وروده لنا، وللواقدي كتاب آخر يعرف بالمغازي وهو بين أيدينا، وليس هذا كل ما وصل لنا من علم الواقدي، فإن علمه قد جائنا عن طريق شخص آخر من مؤرخي هذا العصر أيضا وهو كاتبه محمد بن سعد (230 للهجرة) الذي كانت شهرته كاتب الواقدي، وقد خلف لنا محمد بن سعد كتابه القيم الطبقات الكبرى وهو في ثمانية أجزاء يتحدث في الجزء الأول والثاني عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الأجزاء الستة الباقية عن أخبار الصحابة والتابعين، ومحمد بن سعد هذا هو أحد شيوخ العلامة البلاذري (279 للهجرة).
الجانب الثالث: الترجمة من اللغات الأجنبية في عام 145 للهجرة وضع المنصور حجر الأساس للعاصمة الجديدة بغداد، وجمع حوله فيها صفوة العلماء من مختلف النواحي، وشجع على ترجمة كتب العلوم والآداب من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، واستجاب له كثير من الباحثين، من أبرزهم ابن المقفع الذي ترجم كتاب كليلة ودمنة (757 للميلاد) والطبيب النسطوري جورجيس بن بختيشوع (771 للميلاد)، وبختيشوع بن جورجيس (801 للميلاد)، وجبريل تلميذ بختيشوع (809 للميلاد)، والحجاج ابن يوسف بن مطر (الذي ذاع اسمه بين سنتي 786 و 863 للميلاد).
و لم يكتف المسلمون بمجرد الترجمة بل كانوا يبدعون ويضيفون إلى كل علم يترجمونه. كما لعب المسلمون بهذا دورا كبيرا في خدمة الثقافة العالمية، فقد أنقذوا هذه العلوم من فناء محقق، إذ تسلموا هذه الكتب في عصور الظلام، فبعثوا فيها الحياة، وعن طريق معاهدهم وجامعاتهم وأبحاثهم وصلت هذه الدراسات إلى أوروبا، فترجمت مجموعات كبيرة من اللغة العربية إلى اللاتينية، وقد كان ذلك أساسا لثقافة أوروبا الحديثة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى النهضة الأوروبية.
وأنشئ في هذا العصر بيت الحكمة وهو أول مجمع علمي ومعه مرصد ومكتبة جامعة وهيئة للترجمة، وصل إلى أوج نشاطه العلمي في التصنيف والترجمة في عهد المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وكان المرصد منوتعيين خط العرض وقياس طول محيط الأرض، وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة 656 للهجرة الموافق 1258 للميلاد.