الحياة الفكرية في العصر العباسي
شغلت بغداد مركز الحضارة الإسلامية اعتباراً من بدايات القرن الثاني الهجري, فالخلفاء العباسيين اعتنوا بالناحية الفكرية إلى جانب اعتنائهم بالدفاع عن حدود الخلافة العباسية, ونتيجة لهذا الاعتناء فقد وجدت في نهاية النصف الأول من القرن(7هـ) تراثاً فكرياً لا تكاد حضارة من الحضارات أن تضاهيه, غير أن هذا التراث الفكري قد تعرض إلى هجمة بربرية كادت أن تقضي عليه لولا ما وجد من علماء قد اعتنوا به في الأمصار الأخرى مثل مصر وبلاد الشام والحجاز, وإلى هذه الأمصار الثلاث يعود الفضل ليس إلى إحياء هذا التراث فحسب بل الإبداع فيه أيضاً. فالمراكز العلمية التي انتشرت في كافة أرجاء الشام ومصر, وساعدت على نبوغ الكثير من العلماء الذين وجدوا في تشجيع السلاطين والأمراء والقادة وعامة الناس مما يساعدهم على النهوض بهذا التراث وتوثيقه, والعمل بكل شكل من الأشكال على إعادة صياغته وتوثيقه. إن ما تركه العصر العباسي من تراث حضاري لايتمثل فقط في العمائر التي بنيت في العواصم الإسلامية، في كل الأمصار, والتي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم, بل تتمثل أيضاً فيما خلفه علماء وأدباء تلك الحقبة من مؤلفات ما زالت إلى اليوم تعد من أهم مصادر البحوث والدراسات الإسلامية في شتى ألوان الفكر والثقافة.
سمات الحياة الفكرية
ويمكن استنتاج السمات العامة للحياة الفكرية في العصر العباسي بالنقاط التالية: 1- شكلت العوامل السياسية والعسكرية والدينية والاقتصادية والاجتماعية, إسهاماً واضحاً في نشاط الحركة الفكرية, من حيث الإبداع والتجديد والإحياء. 2- كانت اللغة العربية هي اللغة التي دون فيها النتاج الفكري في هذا العصر, فالمصنفات الأدبية والعلمية التي ورثناها عن هذا العصر قد دونت كلها باللغة العربية. 3- إن الدور الذي قام به العلماء في الحياة الاجتماعية والفكرية بشكل خاص ترك أثره الواضح في إعادة الحياة الفكرية التي ألقها ومكانتها الرفيعة التي وصلت إليها. 4- إن الدارس لهذا العصر يجد أن المؤسسات العلمية حظيت باهتمام السلطة العليا والعلماء, فانتشرت أبنيتها في كافة أنحاء السلطنة لتسهم في إعادة تفعيل الحياة العلمية في جميع ميادين الفكر والمعرفة. 5- لقد حظي الناشئة باهتمام العلماء فأخذوا يكرسون لهم الوقت الكافي لتعليمهم ورعايتهم فكرياً وليجعلوا منهم قاعدة علمية توكل إليه في المستقبل مهام النهوض بالمجتمع فكرياً ودينياً واجتماعياً. 6- لم يقتصر التعليم على المؤسسات الرسمية, ونقصد بذلك المساجد, والمدارس, والبيمارستانات, بل تعدى ذلك إلى الخانقاهات, والربط والزوايا, والمكتبات, ودور العلماء, ومجلسهم, والأديرة والكنائس, وأصبح العلم يؤتى في كل مكان وجد فيه عالم. 7- لم يقتصر النهوض بالحركة الفكرية على العلماء المسلمين فقط, بل كان لعلماء أهل الذمة إسهاماً في هذا النهوض. 8- لم يكن التعليم السائد في هذا العصر مقتصراً على الناحية الدينية فحسب, بل شمل العلوم العقلية بمختلف فروعها. 9- لقد أسهمت المرأة إسهاماً فعالاًَ ونشطاً في نهوض الحركة العلمية في العصر المملوكي. 10- شمولية المعرفة العلمية وموسوعيتها لدى علماء هذا العصر, فنجد العالم يصنف في العلوم الدينية, والعربية, والعقلية. 12- ومن السمات التي امتاز بها العصر العباسي أن العلم ومقوماته لم تقتصر على إقليم محدد, بل كانت مشتملة على جميع أرض الخلافة العباسية, وهذا دليل آخر على أن السمات العامة للحياة الفكرية لم تكن متصفة بالانحطاط وعدم الإبداع. ومما تقدم يتبين للباحث والدارس لهذا العصر والناظر إليه بموضوعية أنه لزاماً عليه إنصافه مما لحق به من ظلم وجور في بعض الدراسات التي عدته من عصور الانحطاط والانحدار والظلمة.