سيكولوجية الجماهير.. قراءة في خطاب ترامب
في مقابلة تلفزيونية سُئل الفيلسوف الكبير راسل عن رسالته للأجيال القادمة، قال "الحب حكمة، الكراهية حماقة"، تذكرت راسل وأنا أستمع لخطابات ترامب المليئة في الواقع بالبغض، والكراهية، والعنصرية، هذه الخطابات لم تكن فقط ضد المسلمين بل أيضاً ضد المكسيكيين، والصينيين، والأسكتلدنيين.. ضد اللاجئين والمهاجرين عموماً، غير أنها أخذت مداها وتجاوزت كثيراً حدود الحرية الشخصية بعد هجمات باريس الأخيرة وهجوم كاليفورنيا.
نؤمن أن الكراهية فخ لا يقع به إلا جاهل.. الكراهية تنتج كراهية مقابلة، تهدم، تفرق، الكراهية عنف.. الكراهية بمعنى آخر دعوة إلى الموت، موت الحضارة والإنسانية وتدهور العلاقات الإيجابية بين مختلف فئات المجتمع الواحد، هذه العلاقات القائمة أساساً على احترام حقوق الإنسان.
فإذاً لنا أن نتساءل: كيف لرجلٍ مثل دونالد ترامب، رجل المال والأعمال ذي الباع الطويل في التجارة العالمية أن يقع بفخ الكراهية؟ كيف لم يسعفه ذكاؤه وخبرته وعلاقاته التجارية في العالم، والشرق الأوسط بالخصوص، من هذا السقوط الأخلاقي المدوي؟ هل هو بهذا الغباء والسذاجة؟ المفاجأة هنا أن هذه التصريحات الصادمة لم تكن على المستوى الشخصي، بل ضمن إستراتيجية حملته الدعائية للرئاسة، فهي إذاً تصريحات يفترض أن تكون أقرب إلى الخطاب السياسي المتوازن، الذي يهدف إلى أستقطاب أكبر عدد ممكن من الناخبين، منه إلى هذا الخطاب المتهور.. ولكن ترامب لم يفعل ذلك.
من هنا لنا أيضاً أن نتساءل: سياسياً ماذا أراد ترامب بخطاب الكراهية هذه؟ بل والإصرار عليه وتبريره في كل مقابلاته التلفزيونية وتغريداته. هل هي إستراتيجية كسر القالب المتعارف عليه في الخطاب السياسي التقليدي في الانتخابات وإثارة زوبعة من التصريحات والمواقف المستفزة وبالتالي إثارة سيل من ردود الأفعال المتفقة والمختلفة؟ سياسياً، هل ترامب مستوعبٌ تماماً لما يفعل؟ شخصياً، أتصور أنه يدرك ما يفعل.
لننظرإلى بعض من هذه التصريحات، ولنأخذ تصريحاته ضد المسلمين نموذجاً، يقول:
يجب أن نمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة الأميركية..
الحدود ينبغي أن تظل مغلقة أمام المسلمين حتى يتوصل نواب الشعب إلى فهم واضح لأسباب تلك الكراهية.
إن الوضع سيزداد سوءاً، وسنشهد المزيد من الهجمات المشابهة لتلك التي وقعت في سبتمبر 2001م
أين تأتي تلك الكراهية؟ وما أسبابها؟ هذا هو ما علينا التوصل إليه.
هذه التصريحات المشبعة بخطاب الكراهية والعنصرية لم تأتِ إلا في سياق خطابات حملته الانتخابية.. والنتيجة؟ كراهية وكراهية مضادة.. تعاطف وتعاطف مضاد، أثارت جدلاً واسعاً وتداعيات ليس فقط على مستوى الداخل الأميركي بل على المستوى العالمي أيضاً، ولعلي لا أبالغ إن قلت إن هذا هو المطلوب تماماً: إثارة العاطفة لدى جماهير الناخبين كإستراتيجية انتخابية جديدة. لا أدري إن كان يجدر بي إطلاق تسمية الفوضى الخطابية الخلاقة، بمعنى ذلك الخطاب الذي يؤدي إلى حالة من الفوضى بين الجماهير يوصلك في الأخير إلى ما تريد.
وإذا كان راسل يقول إن الكراهية حماقة، وهذا حقيقي جداً، لكنها بالمقابل -أي الكراهية- عاطفة، وإن كانت عاطفة سلبية، وعندما تصبح هذه العاطفة جماهيرية فغالباً ما تأخذ مساراً غير متوقع. وبالفعل ففي آخر استطلاعات الرأي العام الأميركي تزايدت شعبية ترامب بنسبة 45% متقدماً جميع منافسية من الجمهوريين، وهذه نتيجة صادمة، ومؤشر خطير كيف لخطاب الكراهية أن يقلب الموازين رأساً على عقب.
في كتابه العبقري "سيكولوجية الجماهير" يحدد عالم الاجتماع الفرنسي الشهير غوستاف لوبون أهم النقاط المؤثرة في تأطير العلاقة بين الخطباء والجماهير حيث للعاطفة والكلمات الرنانة سطوتها، وللأوهام حضورها الأسطوري، باعتبار أن الجماهير غير قادرة على استيعاب الحجج العقلية، الخطاب العقلاني لا يجذبها؛ لأنها في اللاوعي تفضّل كل ما هو عاطفي وفوضوي. ولذا يقول: «إن محرّكي الجماهير من الخطباء، لا يتوجهون إلى عقلها، بل إلى عاطفتها، فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير فيها». هذا ما استنتجه لوبون، ولعل ما قاله يسعفنا في فهم فوضى الوعي لدى الجماهير الخاضعة لتأثيرات أي خطاب سواء ديني، اجتماعي، أو سياسي.. سواء معتدل أو متطرف.. ولعل هذا يفسر لنا نتيجة استطلاعات الرأي لدى ترامب وتقدمه الكبير على الرغم من خطاباته المستفزة.
نعم، على المستوى المنطقي، الكراهية حماقة أما على المستوى الجماهيري فلا يعنيها المنطق بل العاطفة أياً كان اتجاه هذه العاطفة سلباً أم إيجاباً، وهذا تماماً ما يفعله ترامب ومستشاروه، إنهم يقودون العاطفة السلبية، ويصبون كل اهتمامهم على تلك الجماهير الناخبة، بالرغم من كل تلك التداعيات على المستوى الاجتماعي، التجاري، والإعلامي.
فهناك إلى الآن أكثر من 500.000 توقيع في بريطانيا مطالبة بمنع ترامب من دخول بريطانيا، ومشروع الجولف الأكبر في دبي نزع شعار وصور ترامب من موقع المشروع، وهاهوذا الوليد بن طلال، أيقونة التجارة العربية، يصفه بأنه "عار على أمريكا"، وأسكتلندا تسحب الدكتوراه الفخرية منه، وشركة إماراتية تسحب كل منتجات ترامب من متاجرها.
وداخلياً، هاهو عمدة مدينة سانت بيترسبورغ بولاية فلوريدا يمنع ترامب من دخول المدينة بسبب خطورة تصريحاته المعادية للمسلمين، وصحيفة الـ"ديلي نيوز" تسخر من ترامب في صفحاتها الأولى، والملاكم محمد علي كلاي، يقول "علينا أن نقف ضد كل من يستعمل الإسلام لأغراض سياسية"... والقائمة تطول.
ولكن وفضلاً عما سبق فإن ردود الأفعال الغاضبة هذه شكلت، كنتيجة عكسية، تياراً كبيراً من المتعاطفين مع ترامب، ومن المؤسف أن هذا التيار زاد بشكل واضح بعد التصريحات ضد المسلمين، ولعلنا نعذرهم، رغم أسفنا الكبير، إذ إن معظم الهجمات الإرهابية في أميركا وأوربا كانت جذورها مسلمين متطرفين، وأحداث باريس نموذجاً واضحاً.
إستطـراد
وكما هو الحال لدى دونالد ترامب في الولايات المتحدة، ثمة النموذج الأوربي المتمثل في حزب اليمين المتطرف الفرنسي برئاسة مارين لوبان، وهي التي زادت بالفعل شعبيتها بنسبة 30% وحققت تقدماً غير مسبوق في الانتخابات الجهوية الفرنسية، وهو مؤشر قوي لما يمكن أن تؤول إليه الأمور عند خوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة العام 2017م. ماري لوبان التي طالبت بغلق المساجد واكتفاء المسلمين بالصلاة في منازلهم، لا تختلف كثيراً عن ترامب فالرؤية وخطاب العنصرية والكراهية في كليهما واحدة حد التطابق، في تصوري هما وجهان لعملة واحدة.
وأخيراً، وعوداً على بدء، يبقى السؤال الأهم والمقلق للكثيرين: هل سيتم انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة بعد كل هذا؟ وإذا حدث، هل ثمة مخاوف على كل من استعداهم في خطاباته؟ شخصياً أتصور، في حال أصبح رئيساً، أن لا شيء مما قاله سيحدث على الإطلاق. فهذه الخطابات بكل ما فيها من مساوئ عنصرية وكراهية لا تتعدى كونها أداةً انتخابية لغرض رفع فرص الفوز بالرئاسة، بغض النظر عن مسألة ما إذا كان فعلاً يؤمن بما يقول أم لأ.
ليس هذا فحسب بل ستعود كل التعاملات التجارية العربية معه على الرغم من كل شيء وسوف ننسى وكأن شيئاً لم يكن، إذ لا بديل آخر، سواء فاز هذا الرجل بالرئاسة أم لم يفز.. فنحن في الأخير موجوعون بفضيلة النسيان، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.