فى موقعة الانتخابات الأمريكية .. فى الواقع فاز الأفضل
"أنتم لا تحلمون بكابوسٍ مخيف، كما أنكم لم تموتوا ولم تذهبوا إلى الجحيم. هذه هي حياتكم الآن، وهذه هي أمريكا، كل هذا حقيقي"، بهذه العبارات علّقت رايتشل مادو، مذيعة قناة msnbc الأمريكية، على فوز المرشّح دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. سلبية مادو وكُثُر مثلها مردّها للحملة الإعلامية التي شُنت على ترامب، قبل بدء الانتخابات فعلياً. صُوّرت المرشّحة هيلاري كلينتون كمن ضمنت الفوز، وتخوض الانتخابات فقط لأسبابٍ قانونية، ولإتمام عملية الوصول للبيت الأبيض.
الصورة السوداوية التي انتشرت عالمياً إبان ظهور الحالة "الترامبية"، والتي كان عنوانها الفضائح الجنسية، والنزعة النرجسية لترامب، والعنصرية ضد السود واللاتينيين والمسلمين، ومواقف ترامب الجدلية ولدت نفوراً لدى الرأي العام العالمي، وشكلت صدمة لرواد العولمة. بروز اليمين المتطرف على الرغم من تواضع حركته في بدايتها عكس اليوم، لم يهز عرش أعدائه، الذين لطالما جزموا بعجز اليمين عن الحسم، ترافقهم في التشكيك إمبراطوريات إعلامية ومراكز تمويلٍ ودول ورجال أعمال، دعموا كلينتون في السباق الرئاسي.
فوز ترامب عكس حجم الفروق ما بين الإحصاءات والاستطلاعات الإعلامية أو التابعة لمراكز الدراسات، والنبض الفعلي للشارع الأمريكي، فالشارع كما أظهرت النتيجة في وادٍ والإحصاءات في وادٍ آخر. نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في فرض سلطتها كممثلٍ للرأي العام، عكس الإعلام التقليدي، وحملاته المشيطنة دوماً لترامب. ناخبو ترامب كانوا من البيض، اليافعين وكبار السن، المتعلمين والأمييين. لم يشفع لكلينتون الصورة المتفائلة التي رسمها أوباما حولها، ولا دعم نجوم الفن والتمثيل والإعلام في التأثير في الرأي العام.
استهل ترامب خطاب النصر بخطابٍ وحدوي، يعكس رؤيته الفعلية للمرحلة القادمة، ففي عهده، سيركز على تنفيذ وعوده التي انتُخب على أساسها. لا يعني الناخب الأمريكي من الطبقات المتوسطة والفقيرة ظهور داعش، ولا الحروب التي تجتاح العالم، جلّ ما يعنيه هو الاقتصاد وتفرّعاته، من تأمين وظائف ونظام رعايةٍ صحي فعلي أفضل من نظام "أوباما كير". يعنيه الإرث التاريخي لدولة عمرها 240 سنة، هذا الإرثٌ الذي بني على الشعور بالفخر القومي. لم تقدّم كلينتون أي نظرياتٍ اقتصادية جديدة، برزت كخليفة أوباما الذي ترأس أمريكا لولايتين من ثماني سنوات. ولايات أوباما التي شكّلت نقلةً نوعية على صعيد السياسة العالمية، إن باتفاقه مع إيران أو تنسيقه مع روسيا، أو إعادته العلاقات مع كوبا، لقيت ترحيباً أممياً واسعاً، لكنها تجاهلت الناخب الأمريكي، الذي انتخب أوباما بناءً على وعوده بالانسحاب من العراق، وتحسين الموازنة الداخلية وتأهيل الاقتصاد. لكن هل حقق أوباما ذلك فعلاً أو نفّذ وعوده؟ عاد الجنود الأمريكيون للعراق، وحارب هو قانون "جاستا" الذي يحاسب رعاة الإرهاب الذين ساعدوا ودعموا منفذي اعتداءات 11 أيلول، وأمّن 20 ألف وظيفة مع أنه وعد بمئات الآلاف. سيذكر التاريخ أوباما كرئيسٍ ذي إنجازاتٍ عالميةٍ لا داخلية، مما أثار نقمة ناخبيه عليه وعلى إدارته التي تعتبر كلينتون جزءاً أساسياً فيها، وخسر بالتالي الحزب الديمقراطي مركز الرئاسة، مجلس الشيوخ والكونغرس معاً في وقتٍ واحد، إذ عاد الجمهوريون على ظهر الفيل ترامب ليمسكوا بمفاصل الدّولة.
النّاخب الأمريكي بحث عن تغييرٍ فعلي، فدعم بيرني ساندرز صاحب الرؤية الاقتصادية الفريدة، فأقصته كلينتون متهمةً إياه ببث نفسٍ اشتراكي ينسف أسس النظام الامريكي الرأسمالي، بينما ترامب نجح في تجاوز 15 منافساً في الانتخابات التمهيدية لحزبه. الشعبوي العنصري لم يهزم منافسيه بخطابه فقط. الخطاب العنصري كان ليضمن له التّفوق على منافسيه فقط أو قسمٍ منهم لا كلّهم. وُسم ترامب بالغباء، لكنه نجح في تحقيق الفوز لأنه الأقرب للسوق الأمريكي، فترامب لم يكن خريجاً لأي مدرسة سياسية، بل رجل أعمالٍ ناجحاً، نجح في مراكمة المليارات من الدّولارات، مما جعل منه بارقة أملٍ للناخب الأمريكي.
يتوجّس المراقبون من سياسة ترامب الخارجية، ويتخوّفون من تنفيذه ما وعد به، من بناء حائطٍ على الحدود مع المكسيك، ومنع المسلمين من دخول أمريكا، لكن ترامب الرئيس ليس ترامب المرشّح. لا أسلحة محرمة في الحملة الانتخابية، عكس الرئاسة التي تحدّد سياستها تبعاً لتقارير الأجهزة الأمنية الـ17، وقرارت الكونغرس ومجلس الشيوخ... علماً أن الجمهوريين لم يؤيّدوا ترامب بشكلٍ كلي، أي أن أي قرارٍ يتعارض وقيم الحزب، سيواجه بالرفض والسقوط. ومع أن ترامب في خطاب الفوز كان دبلوماسياً، إلا أن التّشاؤم من فوزه سيد الموقف. لماذا؟ بسبب خطابه؟ ماذا عن كلينتون وسياستها الخارجية، في ظل التسريبات عن دورها في بروز "داعش"، ودعم الحروب الأهلية؟ ترامب واضحٌ في سياسته الخارجية التي مثّلت 6 ثوانٍ من خطاب النّصر فقط، عكس كلينتون التي أرادت ان تواصل نهج أوباما.
يتخوّف الجميع من انسحاب أمريكا من مركز القرار العالمي، لكن بجولة بسيطة على السنوات الخمس السابقة، نجد أن إدارة أوباما انكفأت فعلاً وفتحت الباب أمام دورٍ روسي - صيني متقدّم. ترامب اليميني سينفّذ خططاً اقتصادية، وسيحاسب على أساسها، وعلبه، لا خوف مبرّر. من قاد حملة العنصري هو رجلٌ مهاجر، وطاقم عمله مختلط، وما قبل الانتخابات الرّئاسية، ليس كما بعدها.