بقلم غاندي الحمد
نقل من منتدى الجيران
المقدمة
اقلعت الطائرة بي في رحلة حول العالم تمر فوق المحيط الهادي, و الى جانبي كان هناك راكبان آخران احدهما محاسب و الآخر رجل ثري و أنا و أعوذ بالله من كلمة أنا عاطل عن العمل و مصدر رزقي الوحيد هو النصب و الأحتيال. و فجاة بدأت الطائرة تترنح وتسقط في المحيط و قلنا أنا لله و أنا اليه راجعون سقطت الطائرة و نجونا نحن الثلاثة و بتنا نطوف في عرض المحيط تتقاذفنا أمواجه حتى أرهقتنا و نحن ممسكون بما تبقى لدينا من قوة بباب التواليت الذي كان يعوم و يعطينا فرصة للنجاة. و بعد فترة وجدنا الأمل... جزيرة صغيرة نائية و اتجهنا اليها بما تبقى لدينا من قوة نجذف باتجاهها, وصلنا الى الشاطئ و فقدنا الوعي. قبل أن اكمل القصة أسمحوا لي بأن أشرح لكم الآن الأسباب الحقيقية لحدوث الأزمة المالية العالمية و تفشيها و تداعياتها في العالم, بطريقة بسيطة و سهلة للفهم و الاستيعاب بعيدا عن المصطلحات اللأقتصادية و النظريات المالية المستعصية. و كل ما عليكم فعله هو مساعدتي في ذلك بأن تتخيلوا أنفسكم احد ابطال القصة التي سأرويها لكم.
أولا- محو الأمية: مصطلحات و مفاهيم
الذهب
علينا أولا أن نعي تماما بأنه لا علاقة للنفط و الغاز و المعادن و باقي الثروات الطبيعية و الصناعات بالموضوع, و الأزمة المالية مرتبطة بأمر واحد فقط و هو: النقد العالمي الغير مؤمن بالذهب (اي الدولار). و يجب هنا أن نوضح لماذا و ما هو هذا المصطلح؟ و بعودة بسيطة للوراء سنجد ان النقود الورقية حديثة العهد بالنسبة لنظامنا الاقتصادي العالمي المعاصر, و اذا عدنا قرنا الى الوراء في آلة الزمن لوجدنا أن النقد المتداول عالميا سابقا كان الذهب, أو بالأحرى النقود الذهبية حيث انها كانت تلبي كل حاجات البشرية في تبادل السلع نظرا لاستخدامها كوسيلة لتحديد القيمة, و كوسيلة للتبادل و كوسيلة للأدخار ايضا. فماذا حصل للذهب و لماذا لم نعد نستعمله للتبادل التجاري؟ الجواب بسيط لأن الذهب قيمته تكمن فيه (في ماهيته) و نظرا لذلك فعندما تحمل معك ذهبك و انت ذاهب للتجارة الى الصين مثلا, فأنت تخاطر بأن تسرق منك أولا و ثانيا الذهب ثقيل للحمل, في حالة التبادل التجاري الضخم. فكيف نتلافى سلبيات التداول بالذهب و نقله و السفر به؟ الحل, بأن لا نحمل الذهب معنا و نحن ذاهبون للتجارة. فكيف سندفع قيمة المشتريات اذا؟ علينا ان نؤكد للمشتري وجود النقود لدينا, اي علينا ان نقنع المشتري بأن هناك ما يكفل له تحصيل ثمن البضاعة التي يبيعها مقابل النقود الذهبية, و هكذا ظهرت الحوالات. ففتح بعض التجار مكتبا في بلد المشتري و مكتبا في بلد البائع, يقوم المشتري بتسليم الوسيط النقود الذهبية التي بحوزته فيعطيه مكتب الوسيط في بلده ورقة اسمية عليها ختم يذهب بها الى بلد البائع الذي يراها و يثق بها, فيبيع بضاعته للمشتري و يذهب بعدها الى مكتب الوسيط في بلده فيعطيه الوسيط قيمة الورقة نقدا ذهبيا. أي اننا اخترعنا طريقة لنقل الذهب و تبادله من شخص الى اخر دون نقله بالمعنى الحرفي للكلمة. و لكن علينا أن نلاحظ ان الورقة المالية (الحوالة) بحد ذاتها لا قيمة لها, ما يضفي عليها القيمة هو الثقة بين البائع و المشتري و ثقة البائع ان المبلغ المكتوب في الورقة موجود فعليا كنقد ذهبي عند مصدر الورقة, و يستطيع استلامه عند الطلب. أي ان الورقة مؤمنة بالذهب بضمان: وهو حسن سمعة الوسيط. و بكلمة واحدة الثقة هي الأساس في التعاملات المبنية على الحوالات.
الدولار و بقالية النظام الحتياطي الفدرالي
و قد يتساءل البعض و هل الدولار العالمي مؤمن بالذهب بنفس الطريقة؟ و الجواب: كان الدولار مؤمنا بالذهب سابقا. لكن الحكومة الامريكية ألغت غطاء الذهب (التأمين بالذهب) و سبقتها الى ذلك بريطانيا فأصبح الدولار الورقي عملة عالمية غير مؤمنة بالذهب و قيمتها النقدية, قابلة للزيادة و النقصان حسب تداعيات سوق الذهب. بالتالي هذا يعني انه في ظل هذا النظام الجديد للتداول, اصبح الذهب سلعة, و لم يعد وسيلة للتبادل و تحديد القيمة ووسيلة للأدخار, فاقدا بذلك كل خصائصه النقدية ليتحول الى سلعة فقط لا غير. اي ان النظام المالي الجديد يقوم على الدولار الامريكي الورقي, كأساس للقيمة, مع العلم ان الورقة بحد ذاتها (من فئة 100 دولار مثلا, قيمتها الفعلية هي قيمة طباعتها أي حوالي 10 سنت للورقة). و قد يتساءل احدكم و ما المشكلة اذا كانت الحكومة الأمريكية تضمن تلك القيمة كالوسيط الذي كان يقوم بهذا الدور سابقا. و الدولة الأمريكية, كما هو معروف لها أرض و أملاك و ميزانية أي انها تستطيع الوفاء بالوعود و لديها ما يؤمن قيمة عملتها من ممتلكات. و لكن الجواب مخيف بل كارثي: و هو أن الحكومة الأمريكية ليست هي من يطبعها, أي ليست هي من يضمن قيمتها الشرائية, أي ليست هي الوسيط. فمن يطبعها اذا و من هو الوسيط, و من يضمن لمن يتداول الدولار ان قيمته مضمونة؟ و الجواب كارثي أيضا: و هو ان من يطبع تلك العملات هو مؤسسة خاصة لا علاقة لها بالحكومة الأمريكية لا من قريب و لا من بعيد, و اسم هذه المؤسسة هو (النظام الأحتياطي الفدرالي) التي تتكون من أربع مؤسسات مصرفية اتحدت لهذا الغرض في بدايات القرن الماضي. و هذه البنوك مملوكة لأصحابها من ممثلي العائلات الثرية في أمريكا و هم آل روتشيلد, آل روكفيللر, آل مورغان, آل فاربورج. و قد تأسست هذه الشركة فعليا عام 1913 بنتيجة تبني اللوبي المالي في الكونجرس قانونا يحمل رقم 252 يقضي بأنشاء مؤسسة تقوم بوظائف البنك المركزي نيابة عن الدولة و الهدف كان ساميا كالعادة, تحرير الأقتصاد و التجارة من سطوة الدولة. أي ان الوسيط الذي اخذ من الدولة التي لها وزن و أرض و املاك و ميزانية, حق طباعة العملة الورقية, هذا الوسيط هو من يضمن اليوم للعالم قيمة العملة التي يطبعها. و بماذا يضمنها؟ بالقانون؟ لا لأن القانون يحدد مسؤولية هذه المؤسسة المساهمة المحدودة أمام العالم بحجم رأسمالها (و ليس رأسمال مؤسسيها كما يقضي القانون الامريكي) فقط لا غير. فهل يضمنها هذا الوسيط بالأملاك؟ الجواب: لا لأنه (النظام الحتياطي الفدرالي) لا يملك الا المبنى الذي يطبع فيه تلك الأوراق, و مكنات الطباعة, و ربما الورق و الحبر. فما هو الضمان اذا؟ و الجواب غريب ايضا: الضمان هو النمو الأقتصادي. لأنه و حسب ما يسوقونه للعالم كلما زادت الكتلة النقدية و عمليات البيع و الشراء, كلما زادت قوة الدولار ووزنه, و كلما اصبح مضمونا أكثر. و اسمحوا لي ان أطلب منكم ان تتذكروا هذه الفكرة الهامة (النمو الأقتصادي هوالضامن الوحيد لقيمة الدولار) لأننا سنعود اليها لاحقا.
كيف تستدين امريكا دولاراتها من بقالية النظام الاحتياطي الفدرالي
كل هذا نستطيع ان نجتره و نقول لا بأس, هذه خصوصياتهم. و لكن المذهل هو أن الدولة الامريكية كما هو معلوم تحتاج الى الدولارات لضخها في اقتصادها و الأقتصاد العالمي ككل, فكيف تحصل عليها اذا, اذا لم تكن هي من يقوم بطباعتها؟ و الجواب مذهل أيضا: الحكومة الأمريكية تحصل على تلك النقود سنويا بحجم الأصدار الذي تريده, عن طريق اقتراضها من هذه المؤسسة الخاصة المملوكة من قبل حيتان المال الأمريكي, بناء على عقد قرضي, نعم لا تستغربوا. الحكومة الأمريكية ممثلة بالبنك المركزي الأمريكي تقترض من النظام الأحتياطي الفدرالي كل عام السيولة المالية المطلوبة لها و للعالم اجمع, بسعر فائدة سنوي يحدده النظام الأحتياطي الفدرالي باتفاق مع الحكومة الأمريكية. تماما كما يقترض احد منكم نقودا من المصرف ليعيدها مع فوائدها بعد عام. و أذا استعصت تلك العبارة على الفهم اعيدها لكم, الحكومة الأمريكية تقترض الدولارات التي تنشرها في العالم, تقترضها من شركة خاصة, و بصريح العبارة نستطيع القول أن العالم كله يقترض من النظام الأحتياطي الفدرالي الأمريكي, دولاراته التي يستخدمها للتجارة البينية. و المضحك المبكي هو ان العالم يقترض اليوم مئة دولار مثلا من النظام الأحتياطي الفدرالي الامريكي و يتعهد بردها بعد عام 102 دولارا. فهل لكم يا عقول الاقتصاد العالمي ان تشرحوا لي كيف ارد 102 دولارا بعد عام و ليس لدي امكانية لخلق الدولارين الأضافيين, لأنكم انتم من يتحكم بطباعتهما, اي انه علي ان ارد لكم دولارين بعد عام غير موجودين فعليا في الطبيعة. فكيف أفعل ذلك؟ الجواب لا توجد طريقة لذلك و هذا هو مربط الفرس. أي ان هذه التجارة خاسرة سلفا.
أين المشكلة في كل ذلك؟ المشكلة بسيطة للغاية و هي كالتالي: اذا كنت مواطنا سنغاليا و اشتريت مئة دولار, فأنت لا تشتري مئة دولار, بل تشتري 98 دولارا, لأن الحكومة الأمريكية التي صدرت تلك العملة باسمها تدفع مقابل اصدارها للنظام الأحتياطي الفدرالي اللأمريكي نسبة فائدة سنوية تقدر بهذا القدر. أي انك ما ان استبدلت عملتك المحلية بالدولار لتشتريه فأنت تشتريه و تشتري معه واجب تسديد قيمة فائدة اصداره السنوية. و طالما أنه لا توجد طريقة لخلق الدولارين الضافيين من العدم, فهذا يعني انك اشتريت جزءا من التضخم الامريكي و ريحت الدولة الامريكية من دفع هذه النسبة. و اكثر من هذا فأنت أذا احتفظت به لعامين فأنت تدفع قيمة فائدة اصداره للعام الثاني ايضا. أي ان الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الطريقة تصدر تضخم عملتها الداخلي للعالم, اي للخارج. و باختصار فأنت بشرائك للدولار تشتري معه نسبة الفائدة و تنقلهما الى بلدك, شفقة منك على دافعي الضرائب الامريكان.
الدولار عملة عالمية رغما عن انوفكم
لكن قد يتساءل القارئ: انه طالما نحن نزعم أن الدولار غير مؤمن بالذهب, و انه لا ضامن فعلي له, فكيف يضمن الامريكان شعبية الدولار كوسيلة نقدية للتبادل التجاري الدولي, و كيف لم ينهار هذا النظام بالرغم من كل عيوبه؟ و الجواب يتألف من شطرين, و دعونا نلقي الضوء عليهما.
الشطر الأول: اذا ارادت الولايات المتحدة ان تجعل الدولار يستمر في كونه العملة العالمية الأولى عليها أن تجعل من الدول التي تحصل عليه منها كثمن لبيع منتجاتها الصناعية او مواردها الطبيعية في الأسواق العالمية بكميات كبيرة, ان تجعل هذه الدول تابعة لها أما بالمعنى الحرفي للكلمة: كدول العالم الثالث المصدرة للنفط أو بشكل غير مباشر: كدول العالم الأول الصناعية. و الشكل الغير مباشر للتبعية يتم عن طريق استرداد الدولارات الامريكية المنتشرة في العالم الى بلد المنشأ: اي الى الولايات المتحدة الأمريكية, و لكن على شكل قروض لمصلحة الخزينة الأمريكية طويلة الأمد. أي أن الولايات المتحدة تسحب الفائض التجاري في الاقتصاد العالمي على شكل دولارات ورقية حصلت عليها دول العالم الاخرى كثمن لبيع منتجاتها كي تستبدله بأوراق مالية اخرى (سندات الخزينة), تصدرها هي من جديد و تقلل بذلك كمية السيولة المالية العالمية. و اذا فكرنا مليا فلا نحتاج الى خيال واسع كي ندرك سبب الانتشار العسكري الامريكي في الدول المصدرة للنفط و الثروات الباطنية. السبب هو القوة العسكرية للدولة الأمريكية التي لا تسمح لأي احد بالخروج عن طاعتها المالية حتى نظريا.
و لكن اذا عدنا الى البداية, و لماذا كل هذا, لماذا كل هذه الجيوش؟ لماذا الأستدانة من العالم و الولايات المتحدة قادرة على طباعة ما ينقصها من دولارات و السيطرة على العالم اقتصاديا؟ فهي تحصل على الدولار ببلاش, و تطبعه بالمجان دون اي قيود, و الجميع يشتريه و يتعامل به؟ و الأجابة هو أن السيطرة ضرورية كي لا تأتي دولة مثل السعودية او اليابان أو الصين او روسيا (الدول التي تملك دخلا هائلا بالدولار جراء صادراتها الضخمة, الى الأسواق العالمية, كي لا تأتي هذه الدول و تبدأ بشراء اصول لها في داخل الولايات المتحدة الأمريكية, متسببة بأعادة استيراد التضخم الذي صدرته الولايات المتحدة بصعوبة الى الخارج مع الكتلة المالية المصدرة سابقا. و لهذا السبب يوجد في الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة متكاملة من القوانين التي تمنع الأستثمارات الأجنبية على اراضيها. مع انها تطالب العالم اجمع بتسهيل الأستثمار وتدفق رؤوس الأموال, و لكن مع الأشارة هو أن الحرية تلك تخص رأس المال الأمريكي فقط لا غير. أما عندما يتعلق الأمر بالأستثمار داخل اراضي الولايات المتحدة فالقيود القانونية تجعل الأمر مستحيلا بالنسبة للأستثمارات الكبيرة.
و الشطر الثاني و هو الأهم و هو النمو الأقتصادي أو بالأحرى افتعال النمو الأقتصادي العالمي, و اسمحوا لي ان اذكركم بأنني سبق و أن طلبت أن تنتبهوا الى فكرة أن الضامن الوحيد للدولار الأمريكي هو النمو الأقتصادي. و لكن ما علاقة النمو الأقتصادي بضمان القوة الشرائية للدولار؟ و قد تتساءلون ما العيب في ذلك؟ فاجيب لو كان نموا بالمعنى المتعارف عليه لكنا قبلنا بالأمر الواقع الا ان النمو المقصود هو النمو المفتعل أي النمو الذي لا ينتج من زيادة فعلية تراكمية متزايدة في الناتج الأقتصادي الذي عليه ان يكون أكبر من النمو في عدد السكان حتى يكون ملموسا. النمو الأقتصادي في الأقتصاد العالمي التي تقوده الولايات المتحدة سببه ليست الزيادة في كمية السلع والخدمات التي ينتجها الأقتصاد. مع ملاحظة ان هذه السلع يجب أن يتم إنتاجها باستخدام عناصر الإنتاج الرئيسية، وهي الأرض والعمل ورأس المال والتنظيم بل ان هذا النمو في موديل الاقتصاد المفتعل ينشأ بفعل زيادة القيمة الشرائية لأسهم الشركات المساهمة و شركات التامين و البنوك. بشكل أساسي, و ليس له اي علاقة بوسائل الأنتاج. و لن نخوض في معنى هذا الكلام, اذ يكفي أن نقول أن هذا النمو نمو اعتباطي لا علاقة له بالنمو الأقتصادي الصحي. أذا صح ان نسميه نموا بالأساس. و سنرى معنى هذا النمو في القصة التي سنعود اليها الآن.
ثانيا- جزيرة النجاة المتحدة
اذا و بعد ان استفقنا نحن الثلاثة في جزيرتنا النائية, قررنا أن نعطيها أسما فسميناها جزيرة النجاة المتحدة و اتفقنا عليه. بعد سقوط الطائرة و بعد ان وصلنا الى هذه الجزيرة وجدنا أنه لم يبق لدينا شيئا من امتعتنا و الشيئ الوحيد الذي كان بحوزتنا هو باب التواليت الذي وجده الثري عائما و تعلق به و تعلقنا به انا و المحاسب من بعده فنجونا جميعا بفضله. و مع ذلك كان الثري هو الأكثر حظا اذ انه قد وجد في جيبه ورقة نقدية من فئة المئة دولار. و على هذا فاقتصاد جزيرة النجاة المتحدة فيه من الأصول ما يلي: اصول مالية بقيمة مئة دولار (هي نفسها كتلتنا المالية) و اصول مادية و هي باب التواليت و كلاهما بحوزة الثري نظرا لحظه الوفير على ما يبدو. و نظرا لأنه لا يوجد أي شيئ اخر في اقتصادنا المتواضع نستطيع القول ان قيمة الأصل المادي لدينا و هو الباب يعادل الكتلة المالية الموجودة اي مئة دولار. و عليه نستطيع القول ان هذه الكتلة المالية مضمونة بباب التواليت. و نستطيع القول ايضا أن سعر الباب في اقتصادنا مئة دولار.
بعد فترة من الزمن اتى المحاسب بفكرة من صميم عمله و اعلن انه قد أنشأ بنكا, و فتح باب قبول الودائع بنسبة فائدة سنوية مقدارها 3%. فما كان من الثري الا أن قبل العرض و أودع المئة دولار في البنك الجديد و كان اول زبائنه. ففرح المحاسب كثيرا و اعطاه سعفة نخل كتب عليها معطيات الايداع و سجل في ميزانيته العمومية في خانة الخصم تلك الوديعة بقيمة مئة دولار.
لكنني نصاب عالمي كما تعلمون فعرضت على الثري الفكرة التالية, لأنني أعلم انه طماع و يحب المال, فقلت له: اسمع اخي أنا أعرض عليك استثمار المئة دولار بأن تشتري سندا ماليا مني قيمته مئة دولار بريع قدره 5% سنويا. فكر الثري قليلا ثم عاد الى المحاسب و قال له اريد ان اغلق الحساب, فانزعج المحاسب, و لكن ما باليد حيلة, و اعطاه المبلغ آسفا و حزينا. فأخذت المبلغ من الثري و اعطيته سعفة نخل كتبت عليها سند مالي بقيمة 100 دولار لحامله بمعدل فائدة قدره 5% سنويا ففرح الثري فرحا شديدا. و بعدها ذهبت مسرعا الى المحاسب لأعود و افتح حسابا و لكن بأسمي هذه المرة و أودعت المئة دولار في بنكه, فعادت الأبتسامة الى وجه المحاسب من جديد. و اصبح عنده زبون جديد.
بعد هذه العمليات الجهنمية كان من الأجدى أن نذهب و نبحث لنا عن جوزة هند نشرب عصيرها أو نبحث عن ينبوع مياه للشرب أو نصيد سمكة نأكلهاو لكننا رأسماليون طماعون, و لا نستطيع ان تنوقف عند هذا الحد طبعا.
و هنا خطرت لي فكرة اشد دهاء من الأولى, و كوني قد فهمت ان الثري طماع و يحب النقود و المغامرة قلت له: هل تريد ان تكسب 1% من المئة دولار سنويا بدون أي مجهود؟ فقال لي طبعا. قلت له اذهب الى البنك و خذ قرضا بقيمة مئة دولار بمعدل فائدة 4% سنويا و أعطني اياها لتستثمرها بشراء سند مالي اخر بمعدل فائدة قدره 5%. و لكي لا اعطيه مجالا للتردد كتبت له السند الثاني على سعفة النخل و صرت الوح بها أمامه فقال لي أنا اقبل طبعا و لكن كيف سيعطيني البنك المبلغ من دون ضمان, فقلت له ضمانك هو السند الأول الذي اعطيتك اياه سابقا, و المئة دولار موجودة في البنك لأنني أودعتها. فذهب الثري الى البنك و عرض الفكرة على المحاسب فوافق المحاسب لأنه يكسب 1% سنويا كفرق بين فائدة الوديعة و فائدة القرض و طلب ضمانا فأخذ السند كضمان للدفع. و أعطى المحاسب الثري المئة دولار تلك. اعطاني الثري اياها بعدها و سلمته السند الثاني. و عدت الى المحاسب و اودعته المئة دولار على حسابي فاصبح لدي مئتي دولار. و اصبح لدى الثري استثمارات بقيمة مئتي دولار.و اصبحت الحياة ذات طعم فأنا اصبحت صاحب وديعة بقيمة مئتي دولار. و المحاسب قد بدأ بنكه بقبول الودائع و اعطاء القروض و الثري بدأ يستثمر نقوده بمعدل فائدة أكبر من ريع الوديعة. الكل يحس بنشوة النجاح و العمل. كان بأمكاننا أن نتوقف عند هذا الحد لكنني تشوقت و صرت احلم بالثراء السهل المنال. و ها أنذا اصدر سندا ثالثا و رابعا و خامسا للثري و ها هو الثري يقترض من البنك مرة و اخرى و يستثمر النقود لدي بفائدة اكبر من فائدة الوديعة و ها هو المحاسب يعطي القرض تلو الآخر للثري بضمان سنداتي التي يكدسها الواحد تلو الآخر و يقبل مني الوديعة تلو الخرى. و ما هي الا ساعة حتى اصبح لدى الثري سندات على سعف النخل بقيمة اجمالية مقدارها 5000 دولار, و اصبح لدي وديعة مقدارها 5000 دولار في البنك.
لكنني نصاب عالمي كما تذكرون, فقلت لنفسي انني قد مللت من كتابة السندات, و استذكرت ان لدى الثري باب التواليت الذي أردت امتلاكه. عرضت عليه شراءه بمئة دولار فرفض. لأن الباب واحد لا ثاني له فهو غال اذا و في نهاية المطاف اتفقت معه ان يبيعني اياه بألف دولار. فلدي خمسة الاف في البنك. فكتبت للمحاسب شيكا بتلك القيمة باسم الثري و أودع الثري ثمن الباب على حسابه في البنك. و اصبحت مالكا لباب التواليت.
فأذا اعطينا الملف الأقتصادي لجزيرة النجاة المتحدة الى خبير اقتصادي امريكي يحمل دبلوما من هارفارد أو جامعة برينستون و خبرة في رئاسة مجلس الأدارة في شركات عالمية لا تقل عن ثلاثين عاما, لتوصل الى ان ميزانيتنا العمومية شكلها كالتالي:
1- اصول مادية بقيمة 1000 دولار (قيمة الباب)
2- اصول مالية على شكل ودائع بقيمة 5000 دولارا (4000+1000)
3- 5000 دولار سندات مالية.
أي ان القيمة الأجمالية للأصول المادية لجمهوريتنا المجيدة في عدة ساعات قد بلغت 11000 دولارا محققا معدل نمو بلغ 110 ضعفا. و الناتج المحلي الأجمالي ارتفع من مئة دولار (قيمة الباب في بداية السنة المالية) الى الف دولار بعد شرائي للباب في اليوم الأول.
و لكن اذا طلبنا من شخص يرعى الغنم في الصحراء أن يحلل لنا وضعنا المالي لقال لنا أن كل ما تملكون هو باب التواليت و المئة دولار, و هذا هو اقتصادنا الفعلي. و لقال لنا أيضا انكم اناس مجانين فبدلا من أن تبدؤوا بالبحث عن الطعام و الشراب و صيد السمك و بناء سقف من الشجر تحتمون به من الشمس و المطر, أضعتم يوما كاملا للقيام بأمور مالية شديدة التعقيد لا قيمة فعلية لها.
اي الفرضيتين اقرب للصواب؟ أترك الحكم لكم, لكن عليكم أن تعلموا أن الية العمل و نشوء الأسعار في سوق العقارات و الأسهم في الولايات المتحدة الأمريكية و غيرها تتم بهذه الطريقة بدون اي اضافات أو منكهات.
الأزمة المالية في جزيرة النجاة المتحدة
و لكن هل بأمكاني أن أصطنع أزمة مالية في جزيرة النجاة المتحدة؟ الجواب طبعا استطيع و استطيع أنن أفعل ذلك في التو و اللحظة, و لكن دعونا نرى هل يمكن لهذا السيناريو أن يدوم طويلا دون أن اتدخل أنا لافتعال الأزمة؟ و لنقل أننا اكتفينا بهذا القدر من التعاملات المالية و تركنا هذا العمل و اتجهنا لجمع الطعام و الشراب لكي نعيش, و بعد عام اتي ذلك اليوم الذي يترتب فيه على الثري أن يسدد ديونه و فوائدها للبنك, فيأتيه المحاسب مطالبا اياه بها فيجد أنه لا يملك ألا سنداتي بقيمة 5000 دولار و لا يستطيع أن يرد القرض و فوائده, فيقوم البنك و حسب القانون النافذ بالحجز على أملاكه (و هي السندات) و يصفر وديعته (1000) دولار. و بعدها يأتي دوري للوفاء بالتزاماتي حسب السندات فيأتيتني المحاسب ليطالبني بالخمسة الاف دولار+ الفوائد+ الباب. و لنرى بأن قيمة السندات تصبح صفرية نظرا لعدم توافر السيولة لدي, فيحجر البنك على املاكي و هي الباب. و تصبح المئة دولار و الباب ملكا للبنك. هذا السيناريو لا يروق لي طبعا, اذا سأفتعل الأزمة قبل أنن اصبح ضحيتها.
و كما تعلمون فأنا محتال عالمي فلن انتظر طبعا حتى يأتيتي المحاسب ليطالبني بمستحقاته, بل سأقول له بأنني أريد أن اسحب وديعتي و فوائده الآن. و لا يستطيع المحاسب طبعا أن يؤمن لي الا 100 دولار بالأضافة الى أملاك البنك و هي سنداتي التي اخذها البنك من الثري كضمان لتسديد قرض الثري, فأحصل عليها و اصفرها بتمزيقها و يفلس البنك و يغلق. و لا يستطيع الثري مطالبتي بالسندات لأنه قد رهنها فلم تعد ملكه. و أصبح أنا المالك الحصري لكل أصول جزيرة النجاة المتحدة أي المئة دولار و الباب. و بطريقة قانونية تماما.
و هذا هو تماما ما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008.
ثالثا- امبراطورية جزر النجاة المتحدة
نشأة الأمبراطورية و ازدهارها
بالله عليكم هل صدقتم انني انا المحتال ذائع الصيت سأقضي على اقتصاد دولتنا الفتية بهذه السرعة و بهذه البساطة؟ انتم مخطئون فأنا محتال و الثري طماع و المحاسب ذكي. و اذا بنا نرى يوما ان هناك جزرا اخرى حولنا فقمنا بصناعة قارب من جذوع الأشجار و ركبناه الى أن وصلنا الى جزيرة مجاورة و بعدها الى اخرى حتى اكتشفنا ان خمسا من الجزر المأهولة بالهنود الحمر تحيط بنا و تقطنها عدة قبائل مسالمة يتاجرون فيما بينهم بما ينتجون و يتبادلون السلع فيما بينهم عن طريق مبادلة السلع بالصدف البحري الملون. ففي احدى الجزر هناك الموز, و في الأخرى هناك ماعز و حليب و في الثالثة يصيدون السمك و في الرابعة يصنعون الاواني و في الخامسة- يا الله بئر بترول. و خلال تجولنا في تلك الجزر وجدنا طابعة وورقا و حبرا يبدو ان البحر اتى بها على أثر تحطم الطائرة. اخذناها و عدنا الى جزيرتنا. قلنا لأنفسنا سنتوسع و ننشئ امبراطورية جزر النجاة و لهذا طبعنا مليون دولار و أصبحنا اغنياء. بعدها صنعنا رماحا فعدنا الى جيراننا الهنود الحمر و افهمناهم بطريقة لا مجال للشك فيها باستعمال الرماح اننا اقوياء و اغنياء (لدينا مليون دولار و سندات و بنوك وودائع و رماح و طابعة نقود و حضارة) و عرضنا عليهم كل على حدة أن يأخذ كل منهم خمسمئة دولار على شكل قرض على أن يرده بعد عام مع فائدة قدرها 10% على شكل موز و سمك و ما الى ذلك. و كوننا أقوياء و مسلحين وافقوا و اصبحوا يتبادلون السلع بدولاراتنا بدلا من الصدف البحري. و كلما احتاجوا الى عملة للتبادل اقرضناهم اياها, و في نهاية العام نراهم يأتوننا محملين بالبضائع كي يردوا فوائد قروضهم فمن أين يأتي كل منهم بخمسين دولارا (الفائدة السنوية) اذا كنا نحن من نخلق الدولارات. فليس امامهم الا ايفاء الفوائد المترتبة عليهم على شكل سلع مما ينتجون. و ظهر بينهم اغنياء و فقراء اسياد و عبيد. و انشأنا في كل جزيرة بنكا أصبح يعطي القروض و يقبل الودائع, و اصبحنا نقرض تلك البنوك بعملتنا لقاء فائدة سنوية. و هكذا نشأت حضارة جزر النجاة و ازدهرت مؤمنة العمل و السلع و النجاح لسكان الجزر و المال و الغنى لنا, فقد طبعنا ملايين الدولارات و صرنا نجول في جزر امبراطوريتنا و نشتري من اهلها كل ما نراه و يعجبنا من املاك و عقارات و جبال و اراضي. و صرنا نشتري الجواري و العبيد بالدولارات الورقية و نستخدمهم لخدمتنا, وجهزنا جيشا من العبيد علمناهم صناعة الرماح و اصبحوا هم اداتنا في فرض سيطرتنا و أثبات قوتنا.
حركات التمرد ضد الأمبراطورية المجيدة
قام زعيم احدى الجزر بالعودة الى النظام المالي السابق (الصدف البحري الملون) حيث انه رفض استدانة الدولارات و دفع الفوائد السنوية المترتبة عليه على شكل سلع رأى أنه هو و شعبه أولى بها. و كونه كان زعيم جزيرة البترول, و كون هذه السلعة اساسية في التدفئة, لم يكن امام سكان الجزر المجاورة الا التعامل معه بعملته الوطنية اي بالصدف البحري, فاستدركنا الأمر و أنشأنا بورصة العملات, التي اصبح الجميع و نحن منهم يتداول الصدف و الدولارات فيها. فكان هو يشتري الدولارات لتأمين السلع الاخرى من الجزر المجاورة. و اضطر سكان بقية الجزر (و نحن منهم) الى شراء الصدف منه اجل تأمين البترول من جزيرته. و بعد فترة تمرد زعيم جزيرة الموز ايضا و أعلن أنه يرفض التعامل بالدولار, و اعتمد عملة وطنية جديدة هي الصدف البحري الأحمر. و احسسنا بالخطر. فلقد جمع الأثنان بالدولار مالا لا يستهان به يكفي لشراء جزيرتنا الأم بالدولارعن بكرة ابيها و ظنوا أنهم صاروا أغنياء, و أصبحوا يطالبوننا بشراء أراض و عقارات في جزيرتنا الأم. فأصبح من الضروري التعامل معهما. فلو تركنا الأمر الى ما هو عليه لانتهى عهد عملتنا و امبراطوريتنا و لعاد الجميع الى عملاتهم كما كان سابقا. فقمنا أولا بخفض القيمة الشرائية لعملتنا عن طريق شراء الصدف بأثمان باهظة ادت الى فقدان قيمة مدخرات زعيم الجزيرة المتمردة, و جميع سكانها فكاد بنكهم ان يفلس, بعدها قمنا بمنع سكان الجزر المجاورة من التعامل معه حتى اضطر الى خفض قيمة نفطه اضعافا. كي يجد من يتعامل معه و يشتريه. فساءت حال اهل جزيرته و اصبحوا يتململون. و في ليلة مظلمة انزلنا قوات العبيد المرتزقة فعاثوا في جزيرته فسادا و نهبوا قصره و دمروا جزيرته و اقتصادها الذي تهاوى كي لا يستطيع اهلها مطالبتنا بما هواكثر. و دمرنا البنك و نهبناه فضاعت ودائع السكان و تحالفنا مع احدى الجزر المجاورة للقضاءا على زعامة المتمرد و نهب كل مدخراته, و اغدقنا المال على حليفنا زعيم جزيرة الأواني. و عادت الأمور الى نصابها. فلم يعد احد يطالبنا بأن نبيعه ارضا بقيمة ما قد جمع من عملتنا. فنحن نعلم انها ليست اكثر من ورقة. و عاد النفط الى السوق و اصبحنا نحدد سعره عن طريق انشاء سوق المواد الخام المستقبلية, و صرنا نشتري اليوم ما سينتج اهل الجزيرة غدا بل و بعد عام, فلم يعد انتاجهم اليومي من النفط ملكهم, و احتكرنا كل كميات انتاج النفط المستقبلية, و صرنا نبيعها بضعف ثمن الشراء, لأن عقد البيع المستقبلي, يعطينا حق امتلاك الناتج النفطي الآني و المستقبلي. و حكمنا الجزر لسنين طويلة الى أن اتت سفينة بالصدفة ركبناها فرحين مذهولين و عدنا الى ديارنا. مصطحبين معنا أصول امبراطوريتنا المجيدة و هي المئة دولار و باب التواليت.