«كل شكل من أشكال الفنون يتطلب توفر مجموعة صفات أولية، وقدرات خاصة لدى المبدع تُعطيه الإمكانية الأولية لأن يكون مُبدعاً؛ هذه القُدرة أو الإمكانية تُعرف باسم الموهبة»(1).
خلال السطور التالية سيكون الحديث مركزا على الموهبة الأدبية ووسائل تنميتها، وسيكون حديثي في محوارين،هما:
1--تعريف الموهبة ودورها في الإبداع الأدبي.
2- كيف تنمى الموهبه؟
1- تعريف الموهبة ودورها في الإبداع الأدبي:
الموهبة: معناها اللغوي كما ورد في المعاجم العربية أخذ من الفعل (وهب) أي أعطى شيئاً مجاناً، فالموهبة إذن هي العطية للشيء بلا مقابل 0
أما كلمة موهوب في اللغة فقد أتت أيضاً من الأصل (وهب) فهو إذن الإنسان الذي يعطى أو يمنح شيئاً بلا عوض0
أما المعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم فكان أول من استخدامه وتحدث عن الموهبة والعبقرية والتفوق العقلي فهو ثيرمان 1925م حيث قام بدراسته المشهورة عن الموهوبين ثم تلته الباحثة ( لينا هونجروت 1931م) والتي عرفت الطفل الموهوب :بأنه ذلك الطفل الذي يتكلم بقدرة وسرعة تفوق بقية الأطفال في كافة المجالات فالموهبة إذن استخدمت لتدل على مستوى عال من القدرة على التفكير والأداء ، وقد ظهرت اختلافات بين الباحثين حول الحد الفاصل بين الموهوب والعادي من الأطفال من حيث الذكاء ، فقد بلغ هذا الحد عند ثيرمان140 فأكثر وعند هو نجورت 130 فاكثر حين نجده عند تراكسلر تدنى إلى 120 فأكثر0
وحتى على مستوى الموهوبين أنفسهم فسمت الموهبة وصنفت إلى مستويات حدها حسب مقياس الذكاء عند أستانفورد بينية العقلي كما يلي : ـ
قسم دنلوب الموهوبين (ويقصد بهم المتفوقين عقلياً) إلى ثلاث مستويات هي:
1) فئة الممتازين: وهم الذين تتراوح نسب ذكائهم بين ( 120 أو 125 ) إلى (135 أو 140 ) إذا طبق عليه اختبار استانفدود بينية 0
2) فئة المتفوقين : وهم من تتراوح نسبة ذكائهم بين ( 135 أو 140 إلى 170) على نفس المقياس السابق 0
3) فئة المتفوقين جداً ( العباقرة ) : وهم الذين تبلغ نسبة ذكائهم ( 170 فما فوق ) 0
أ ) الأذكياء المتفوقون : وهم الذين تتراوح نسب ذكائهم بين ( 120 – 135 ) ويشكلون ما نسبته 0.5 % إلى 10 % 0
ب) الموهوبون : وتتراوح نسبة ذكائهم بين ( 135 – 145 ) إلى ( 170 ) ويشكلون ما نسيته 1% - 3% 0
ج) العباقرة : ( الموهوبون جداً ) نسبة ذكائهم 170 فأكثر وهم يشكلون 0.00001 أي ما نسبته واحد في كل مائة ألف أي ما نسبه واحد في كل مائة ألف أي نسبة قليلة جداً 0 ويرى كثير من العلماء أن المواهب قدرات خاصة ذات أصل تكويني لا ترتبط بذكاء الفرد إلى مستوى أداء مرتفع في مجال ، لا يرتبط بذكاء الفرد يرث مثل هذه المواهب حتى لو كان من المتخلفين عقلياً كما ذكرنا ، آنفاً مما أدى بالبعض إلى رفض استخدام هذا المصطلح في مجال التفوق العقلي وحيث أن العلم ينمو ويزدهر دائماً، فلهذا تظهر أراء جديدة نتيجة لما يجد من بيانات مستحدثة 0 وتأتي تفسيرات لهذه البيانات وتغير نتيجة لذلك نظرتنا إلى الأشياء وهذا ما حدث مع هذا المصطلح 0
وقد انتشرت بين علماء التربية وعلم النفس أراء تنادي بأن المواهب لا تقتصر على جوانب بعينها دائماً ، بل تمتد إلى جميع مجالات الحياة المختلفة وأنها تتكون بفعل ظروف البيئة التي تقوم بتوجيه الفرد إلى استثمار ما لديه من ذكاء في هذه المجالات ، وإذا كان مرتفع فإنه قد يصل إلى مستوى أداء مرتفع 0 وبذلك يصبح صاحب موهبة في هذا المجال 0 وهناك الموهبة الخاصة : وهي مستوى عالٍ من الاستعدادات الخاصة في مجال معين سواء أكان علمياً أو أدبياً أو فنياً أم غيرها من المجالات 0
ولا نريد أن نخوض أكثر في علم النفس إذ التفريعات تطول، والكلام يكثر.
ونقصر كلامنا على الأدب:
يكاد نقاد العرب القُدامى يُجمعون على أن الموهبة تُخلق مع الأديب، فإذا لم تكن لديه موهبة فمن الأجدى أن يبحث له عن حرفة أخرى غير الكتابة، يقول بشر بن المعتمر (المتوفى في 210هـ):
"كُن في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخمًا سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا … فإن كانت المنزلة الأولى لا تُواتيك، ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك (يقصد معالجتك للموضوع الذي تريده) وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى قرارها، وإلى حقِّها من أماكنها المقسومةِ لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نِصابِها، ولم تتصل بِشكلها، وكانت قلِقةً في مكانِها، نافِرةً في موضِعِها، فلا تُكرهْها على اغتِصابِ مكانِها، والنزولِ في غيرِ أوطانِها، فإنك إذا لمْ تتعاط الشعرَ الموزونَ، ولمْ تتكلف اختيارَ الكلامِ المنثور، لمْ يُعبك بترك ذلك أحد، فإن أنت تكلفتهما ولم تكن حاذقا مطبوعا، ولا مُحكما لشأنك بصيرا بما عليْكَ ولك، عابكَ من أنت أقل منه عيبا، ورأى من هو دونك أنه فوقك"(2).
ويقول أبو هلالِ العسكري (المتوفى في 395هـ): "أولُ البلاغةِ اجتماعُ آلة البلاغة، وأول آلات البلاغة جودةُ القريحةِ، وطلاقةُ اللسانِ، وذلك من فعل الله تعالى، لا يقدرُ العبدُ على اكتسابِهِ لنفسهِ واجتلابِهِ لها"( 3).
ويقول ابن الأثير (المتوفى سنة 627هـ): "اعلم أن صناعة تأليفِ الكلامِ من المنظومِ والمأثور تفتقر إلى آلات كثيرة … ومِلاكُ هذا كلِّه الطبع، فإنه إذا لم يكن ثمَّ طبع فإنه لا تُغني تلك الآلات شيئا. ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد، والحديدة التي يُقدحُ بها. ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزنادِ نار لا تُفيد تلك الحديدةُ شيئا؟".
ولا بد بعد الطبع من الحفظ والرواية، ولكن كما يرى صاحب "الوساطة" (علي بن عبد العزيز الجرجاني، المتوفى سنة 366هـ) فإن الرواية والحفظ لا يجعلان من المفحم شاعرا، بل لابد من الطبع الموهوب، وتكون الرواية مذكيةً للطبع، صاقلة له، أما إن فقد الطبع فلا أثر للرواية والحفظ، فهناك رواةُ لشعراء أعلام، ومع ذلك لم تُسمع لهم آثار فنية، وعدّّد صاحب "الوساطة" بعض هؤلاء الرواة( 4).
وإذا كانت بعض مدارس علم النفس لا تولي الموهبة كثير اهتمام، فإن البعض الآخر اعتبرها شرطاً أساسياً من شروط الكاتب وكل ما عداها هامشي، كالإلمام بقواعد النحو والإملاء مثلاً.
في كتابه «الطريقة المثلى لتأليف كتاب»، يقول جون هيتس:
«إن الإلمام بقواعد اللغة والإملاء والمصطلحات غير ذات أهمية البتة، تكفيك الموهبة: إن امتلاك الموهبة شرط أساس لولوج عالم الكتابة، لا يقعدنك عدم معرفة قواعد النحو ولا يخجلك الجهل بإملاء الكلمات أو تراكيبها الموهبة، والنظرة الثاقبة، والحسّ المرهف والذهن المتوقد، سرعة الخاطر، الثقة بالنفس والقدرة على التعبير. إنها أهم أدوات الكاتب الناجح. فالإملاء ليس معضلة لا تحلّ مادامت القواميس في متناول كل يد، والقواعد والنحو يمكن إتقانهما بقراءة كتاب من النحو، أو الإيعاز لشخص ضليع ليتولى المهمة بعد إنجاز العمل، لكن الموهبة أن ضمرت أو اضمحلت فما من أحد قادر أن يهبها لغيره أو يعلمها لسواه».
أما «ميشيل ليغات» وهو أستاذ الدراسات اللغوية في إحدى كليات العاصمة البريطانية ومؤلف العديد من الكتب في هذا المجال فيقلل من شأن مدرسة التعلم بالمران والممارسة، فيقول:
«من الغباء أن يجلس المرء للكتابة وذهنه فارغ من أي فكرة وجعبته خالية من أي موضوع. لابد من وجود الموضوع أو الفكرة قبل الجلوس إلى المنضدة والشروع في كتابة أول سطر. فالكتابة عندئذٍ ستكون مسطحة وباهتة وغير ذات طعم. كما لو كنت تنقل صفحة من صفحات دليل التلفون، وإذا ما صادفت أحدهم يقول لك: «لا يلزمك لتصبح كاتباً إلاّ الجلوس يومياً لغرض تمارين الإحماء» فحاذر، فهذه النصيحة عقيمة وجدباء تغرر بك وتخادعك وتضيع وقتك.>>
2- كيف تنمى الموهبة؟
الموهبة إذن منحةٌ من الله تعالى، ويحس الموهوب بأنها ميل في البداية إلى فنٍّ ما، وإذا أحس بهذه الهواية وعرف أنه منجذب إلى ذاك الفن، وإذا تأكد من هذا الميل الفطري عنده، وتأكد من أنه ليس نزوة أو شيئا عابرا. ماذا يفعل لتنمية موهبته؟
أولا: عليه أن يقرأ في الفن الذي يميل إلى الإبداع فيه، وعليه التأمل في إنتاج المبرِّزين فيه؛ فعليه إذا كان شاعراً قراءة شعر الجاهليين والإسلاميين والعباسيين وشعراء النهضة قبل أن يقرأ شعراء التجديد، وعليه إذا كان يريد أن يكون قاصا أن يقرأ إبداعات محمود تيمور ومحمد تيمور ومحمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار، ويوسف إدريس، وعليه إذا كان يريد كتابة الرواية أن يقرأ ما كتبه نجيب محفوظ وعلي أحمد باكثير، ونجيب الكيلاني وفتحي غانم، ومحمد جبريل، وبهاء طاهر، وعليه إذا كان يريد كتابة المسرحية أن يستوعب ما أبدعه توفيق الحكيم وأحمد شوقي …وغيرهما، وهذا ما أُسمِّيه "التعلم على أرباب الفن"، لأن دراسة قواعد الفن وحدها لا تتيح للأديب، ولا تمنحه الفرصة الكافية لتجويد الأدوات، فهذه مرحلة تالية.
ثانيا: على الموهوب أن يقرأ في كافة ألوان المعرفة الأخرى: في اللغة، والشريعة، والتاريخ، والاجتماع، والسياسة وغيرها.
ثالثا: على الموهوب أن يعرف التنظيم (لحياته مع إبداع الفن الذي يُمارسه)؛ فعليه أن ينظم وقتا محددا لقراءاته وإبداعاته وألا تجرفه ممارسته للحياة، ونضرب لذلك مثلا بنجيب محفوظ الذي أشار في العديد من اللقاءات التي أُجريت معه إلى أنه ينظم وقته تنظيما دقيقا، فنجيب محفوظ أشبه بالساعة المنظمة، فوقت محدد للمشي صباحا، ووقت يجلس فيه إلى مكتبه من الساعة كذا إلى الساعة كذا طوال فصول السنة ماعدا فصل الصيف لتعبٍ في عينيه يشتد عليه في هذا الفصل. ولعل هذا النظام هو الذي ساعد نجيب محفوظ على إنجاز هذا القدر الهائل المتفوق من الإبداع الروائي والقصصي، طبعا بجانب موهبته الضخمة التي أحسن استغلالها.
رابعا: على الكاتب الموهوب عدم إضاعة أي مشروع أو هاجس لكتابة أي نص إبداعي في الفن الذي يكتبه؛ فبعض الكتاب قد يُلح عليه موضوع أو هاجس أو رؤى لنص، فيجب عليه أن يسجل ذلك فورا ولا يُهمل تسجيل ما يرد على خاطره؛ فقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي إذا وجد في نفسه رغبة في تسجيل بعض أشياء تمور في وجدانه يُسرع بتسجيلها على أي شيء معه يصلح للكتابة، وعندما يعود إلى بيته يستكمل كتابة النص الذي هجست به نفسه أثناء الطريق.
وكم من أصدقاء شعراء حدثوني عن تأجيل كتابة نص هجست به نفوسهم، وكان يطرق فكرهم، فلم يستطيعوا كتابته فيما بعد.
خامسا: على المبدع بعد كتابة نصه أن يُعاود النظر فيه، وإني أرى ـ بخلاف ما يرى كثيرون ـ أن النص يحتاج إلى مراجعة االمبدع بعد فورة الكتابة، مراجعة منه أو من أقرب أصدقائه الحميمين أوقرائه اللصيقين، ولا ينبغي أن يأخذ بآرائهم جميعا وإلا أفسد النص. ولكن قد يُبدي البعض ملاحظة جيدة تكون في الحسبان، وكم فعَلْتُ هذا في نصوصي الشعرية وفعله آخرون معي في نصوصهم الشعرية أو القصصية أو المسرحية. بل إني أعرف أحد الروائيين البارزين في مصر لا يطبع نصا من نصوصه إلا بعد أن يعرضه ـ مخطوطا ـ على عدد محدود من أصدقائه الذين يطمئن إلى مقدرتهم النقدية، ومن ثم يرى آراءهم وملاحظاتهم على النص، وقد يأخذ ببعضها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ