الأزمات المالية (تعريفها – أسباب نشأتها)
لم تعد الأزمات المالية ظاهرة حديثة من نوعها، فقد اعتاد العالم عليها نظرا لتكررها بشكل سريع في فترات قليلة، كما أن الأزمات المالية في معظم الأحيان متشابهة إلى حد كبير سواء في أسبابها أو في تأثيرها ولكن مع اختلاف قوة الأزمة، غير أن المنتجات المالية الجديدة وزيادة التكامل بين الأسواق المالية العالمية خلال العشرين سنة الماضية، قد أضافا بعض العوامل والمخاوف الجديدة وزادا من تعقيد الأزمات المالية.
في الحقيقة إن التاريخ الاقتصادي مليئ بعدد هائل من الأزمات المالية سواء كانت أزمات أسعار الصرف أو أزمات مصرفية، التي اشتدت حدتها خلال عام 1890 والتي عرفت بأزمة بنك بيرينجز، والتي شابهتها بعد ذلك أزمة المكسيك عام 1994 - 1995، كما شهدت الولايات المتحدة أيضا أزمة أسعار الصرف في الفترة ما بين عام 1894 و 1896، كما وقعت في القرن السابق أزمات مالية عديدة بين الحربين العالمية الأولى والثانية (سوف نشير إليها) بالإضافة إلى أزمات الجنيه الاستيرليني والفرنك الفرنسي في الستينات، إلى جانب انهيار نظام بريتون وودز في السبعينيات والتي سوف نورد له مقالة منفردة فيما بعد إن شاء الله، وأزمة الديون الخارجية في الثمانينات، وفي التسعينات وقعت أزمات العملة في أوروبا وهي أزمة خاصة بآلية سعر الصرف في النظام النقدي الأوروبي بين عامي 1992-1995، لننتهي في النهاية إلى الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الولايات المتحدة عام 2008 وانتقلت إلى معظم دول العالم، وفي هذه المقالة سوف نتحدث عن تعريف الأزمات وأسبابها.
تعريف الأزمات المالية
يمكن تعريف الأزمات المالية على أنها هي الانخفاضات المفاجئة في سعر نوع أو أكثر من الأصول، مثل رأس المال المادي الذي يستخدم في العملية الإنتاجية كالآلات والأبنية، أو الأصول المالية مثل حقوق الملكية لرأس المال أو للمخزون السلعي مثل الأسهم وحسابات الادخار، أو الانخفاض في المشتقات المالية كالعقود المستقبلية للنفط أو للعملات الأجنبية، حيث أنه إذا انخفضت قيمة هذه الأصول فجأة فإن ذلك قد يعني إفلاس أو انهيار قيمة المؤسسات التي تملكها.
وتعرف الأزمات المالية أيضا على أنها تلك الاضطرابات التي تؤثر كليا أو جزئيا على مجمل النظام المالي مثل حجم الإصدار، أسعـار الأسهـم والسندات، وكذلـك اعتمادات الودائع المصرفية، ومعدل أسعار الصـرف، أو انهيار في سوق الأسهم، أو في العملة، أو في سوق العقارات، أو مجموعة من المؤسسات المالية، لتمتد بعد ذلك إلى باقي الاقتصاد.
وعادة ما تحدث الأزمات المالية بشكل فجائي نتيجة لحدوث أزمة ثقة في النظام المالي والتي تأتي نتيجة تدفق رؤوس أموال ضخمة لداخل الاقتصاد متزامنة مع توسع مفرط وسريع في الإقراض دون التأكد من الملاءة الائتمانية للمقترضين، وعندها يحدث انخفاض في قيمة العملة، مؤديا إلى حدوث موجات من التدفقات الرأسمالية إلى الخارج.
أولا: عدم استقرار الاقتصاد الكلي
في الحقيقة إن أحد أهم عوامل اندلاع الأزمات المالية هو ما يحدث من تغير في شروط التبادل التجاري، فعندما تنخفض وتتغير شروط التجارة يصاب المستثمرين بالتعثر ويعجزون عن الوفاء بالتزاماتهم، خصوصا العاملين بنشاطات لها ارتباط بقطاع الاستيراد والتصدير، وقد يشكل انخفاض شروط التجارة سببا رئيسيا للأزمات المالية كما حدث في حالة كل من فنزويلا والإكوادور بسبب الاعتماد الكبير على صادرات النفط الخام مع صغر حجم الاقتصاد وقلة تنوعه.
وتعتبر التقلبات في أسعار الفائدة العالمية من أهم المصادر الخارجية المسببة للأزمات المالية، وذلك لأن التغيرات الكبيرة في أسعار الفائدة عالميا تؤثر بشكل كبير على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر ودرجة جاذبية الاقتصاد لهذه الاستثمارات، وتؤثر أيضا التقلبات في أسعار الفائدة على تكلفة الاقتراض
كما أن التقلبات في أسعار الصرف الحقيقية تعتبر من أهم أسباب اضطراب الاقتصاد الكلي، والتي كانت سببا مباشرا أو غير مباشر لحدوث العديد من الأزمات المالية، وأظهرت عددا من الدراسات المالية أن حوالي 22 دولة في أمريكا الجنوبية عانت من اضطرابات في أسعار الصرف الحقيقية بمعدل أعلى من أي إقليم في العالم بما في ذلك دول جنوب شرق آسيا، كما أشارت الدراسة إلى أن نشوب الأزمات المالية يحدث نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار الصرف الحقيقية كأحد آثار ارتفاع الأرباح في قطاع التجارة الخارجية أو ارتفاع أسعار الفائدة المحلية.
هذا على الجانب الخارجي، أما بالنظر على الناحية الداخلية للاقتصاد فنجد التقلبات في معدل التضخم التي تعتبر عنصرا أساسيا في مدى قدرة القطاع المصرفي في الدولة على القيام بدور الوساطة المالية وخصوصا إعطاء القروض وتوفير السيولة في الاقتصاد، وقد اعتبر عددا كبيرا من خبراء الاقتصاد أن الركود الاقتصادي الناتج عن ارتفاع مستويات الأسعار كان سببا مباشرا لحدوث الأزمات المالية في العديد من دول أمريكا الجنوبية بالإضافة إلى الآثار السلبية على مستويات النمو في الناتج المحلي الإجمالي والتي من أهم الأسباب لحدوث الأزمات المالية.
ثانيا: الاضطرابات التي تحدث في القطاع المالي
لقد كان للتوسع في منح القروض بدون ضمانات كافية والتدفقات الكبيرة في رؤوس الأموال من الخارج إلى جانب انهيار أسواق الأوراق المالية العامل الأساسي الذي دائما ما يسبق حدوث الأزمات المالية في الدول في الوقت الماضي، حيث أدى التوسع في إعطاء القروض إلى حدوث ظاهرة تركز الائتمان سواء في نوع معين من القروض مثل القروض الاستهلاكية أو العقارية كما في حالة الأزمة المالية في كوريا الجنوبية وأزمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة عام 2008، أو تركز القروض في قطاع واحد كالقطاع الحكومي أو الصناعي أو التجاري.
كما سبق أن ذكرنا أن التوسع في إعطاء القروض دون دراسة متأنية لحالة ووضع القطاع المالي بشكل خاص والاقتصاد بشكل له مخاطر كبيرة، في الوقت الذي تتسبب فيه التوسعات في القروض في ظهور مشكلة عدم التوافق والمطابقة بين أصول وخصوم المصارف خصوصا من جانب عدم الاحتفاظ بقدر كافي من السيولة لمواجهة التزاماتها الحاضرة في فترات تكون فيها أسعار الفائدة العالمية مرتفعة وأكثر جاذبية من أسعار الفائدة المحلية، أو عندما تكون أسعار الفائدة المحلية عالية وسعر الصرف ثابتا مما يغري المصارف المحلية بالاقتراض من الخارج، وقد يتعرض زبائن المصارف كذلك إلى عدم التلاؤم بالنسبة للعملة الأجنبية وعدم التوافق أيضا بالنسبة لفترات الاستحقاق.
وخير مثال على ظاهرة عدم التوافق والمطابقة بين الأصول والخصوم هو الأزمة المالية التي ظهرت في المكسيك عام 1989 - 1994 حيث حدث ارتفاع في نسبة العرض النقدي 2 مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وقد صاحب ذلك نقص كبير في الاحتياطي من النقد الأجنبي المقابل لتلك الخصوم واتسعت تلك الفجوة بشكل كبير لدرجة أن قيمة العرض النقدي 2 ارتفعت إلى خمسة أضعاف قيمة احتياطي النقد الأجنبي الأمر الذي السلطة النقدية وقتها إلى تخفيض قيمة العملة، وتكررت نفس هذه المشكلة بعد ذلك في كلا من البرازيل وتشيلي ولكن بصورة أقل.
قد يؤدي التحرر المالي السريع غير الحذر للسوق المالي الذي يأتي بعد فترة من التقييد المالي على القروض إلى حدوث الأزمات المالية، فمثلا عند تحرير أسعار الفائدة فإن المصارف المحلية تفقد الحماية التي كانت تتمتع بها في ظل تقييد أسعار الفائدة.
وتزداد حدة الاضطرابات المالية بالتزامن مع التوسع في إعطاء القروض الذي بدوره يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة المحلية خصوصا في القروض العقارية أو القروض المخصصة للاستثمار في سوق الأوراق المالية، في الوقت الذي يؤدي هذا التوسع في القروض إلى استحداث مخاطر ائتمانية جديدة للمصارف والقطاع المالي وهو ما يصعب على العاملون في البنوك ذوي الخبرات القليلة في تقييم هذه المخاطر والتعامل معها بحذر ووقاية، كما إن التحرر المالي يعني دخول مصارف أخرى إلى السوق المالي مما يزيد الضغوط التنافسية على المصارف المحلية لاسيما في أنشطة ائتمانية غير ميهأة لها وقبول أنواع جديدة من المخاطر قد لا يتحملها البنك، وبدون الإعداد والتهيئة الرقابية اللازمة قبل التحرر المالي فإن المصارف قد لا تتوفر لها الموارد أو الخبرات اللازمة للتعامل مع هذه النشاطات والمخاطر الجديدة.
تعاني معظم الدول التي تعرضت لأزمات مالية من الضعف في المعايير والإجراءات المحاسبية المتبعة ودرجة الإفصاح عن المعلومات خصوصا فيما يتعلق بالديون المعدومة ونسبتها من المحفظة الائتمانية للبنك، كما تعاني هذه الدول من ضعف النظام القانوني المساند للعمليات المصرفية وعدم الالتزام بالقانون الخاص بالحد الأقصى للقروض المقدمة لمقترض واحد ونسبتها من رأسمال البنك.
وتظهر البيانات التاريخية للأزمات المالية على مر الزمن أن التنظيم والرقابة يأتيان دائما بعد حدوث الأزمة كما تظهر أن السلطات النقدية في الدول التي تعرضت للأزمات المالية لم تنجح في التنبؤ بحدوث الأزمات أو الوقاية من حدوثها حيث، وهو ما حدث في أزمة الكساد الكبير عام 1929 في الولايات المتحدة، حيث اعتبر الرئيس الأمريكي هوفر أن هذه الأزمة عبارة عن سحابة صيف في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة في حالة انتعاش ورواج صناعي وتجاري، وسرعان ما استيقظت الولايات المتحدة على الكارثة دون أدنى توقع من صناعة السياسة النقدية.
ثالثا: الإدارة غير المسئولة
لقد أشارت التجارب العالمية على أن الإدارات العليا في المصارف وقلة خبرتها كانت من الأسباب الأساسية للأزمات المصرفية وأن عملية تعديل هيكل المصرف وتدوير المناصب الإدارية لم تنجح في تفادي حدوث الأزمات أو الحد من آثارها لأن نفس الفريق الإداري ظل في مواقع اتخاذ القرارات بحيث لم يحدث تغير حقيق في الإدارة وطريقة تقييمها وإدارتها لمخاطر الائتمان ولدت التجارب كذلك على أن الإدارات العليا في حالات متعددة نجحت في أن تخفي الديون المعدومة للمصرف لسنوات وذلك نتيجة لضعف الرقابة المصرفية من ناحية وضعف النظم والإجراءات المحاسبية من ناحية أخرى، وهذا الوضع جعل من الصعب التعرف على العلامات السابقة لحدوث الأزمات المالية والاستعداد الجيد لتفادي حدوثها والتخفيف من آثارها.
رابعا: السياسات الخاطئة في التعامل مع سعر الصرف
يلاحظ أن الدول التي انتهجت سياسة سعر الصرف الثابت كانت أكثر عرضة للصدمات الخارجية ففي ظل مثل هذا النظام يصعب على السلطات النقدية أن تقوم بدور الملاذ الأخير للاقتراض بالعملات الأجنبية حيث أن ذلك يعني فقدان السلطات النقدية لاحتياطاتها من النقد الأجنبي وحدوث أزمة العملة مثل ما حدث في المكسيك كما ذكرنا والتي نتج عنها ظهور العجز في ميزان المدفوعات وما ترتب عليه من نقص في عرض النقود وارتفاع أسعار الفائدة المحلية مما يزيد من الضغوط وتفاقم حدة الأزمة المالية على القطاع المصرفي.
وفي الناحية الأخرى فإنه في حالة تبني سياسة سعر الصرف المرن فإن حدوث أزمة العملة سوف يؤدي فورا إلى تخفيض قيمة العملة وزيادة في الأسعار المحلية مما يؤدي إلى تخفيض قيمة أصول وخصوم المصارف إلى مستوى أكثر اتساقا مع متطلبات الأمان المصرفي.
خامسا: ارتفاع الديون قصيرة الأجل
في الغالب قبل حدوث الأزمات المالية تتزامن الزيادة في منح القروض قصيرة الأجل مع زيادة كبيرة في نصيب القطاع الخاص من إجمالي القروض ولاسيما المؤسسات المالية، ودائما ما يحدث هذا التوسع في منح الائتمان بدون أن يسبقه التهيئة والإعداد الكافي للجوانب المؤسسية والقانونية والتنظيمية والرقابية والإشرافية للقطاع المالي، فتزداد مخاطرة المصارف وتركز في أنواع محددة من القروض والتي بدورها تؤدي للجوء إلى القروض قصيرة الأجل وهو ما يزيد بدوره إلى زيادة تعرض القطاع المالي في كثير من الدول لأزمات سيولة وهو ما يحدث الآن في الولايات المتحدة التي تعثرت عن سداد ديونها، وأيضا في عدد من دول الاتحاد الأوروبي
بعض الروابط المفيدة للتعريف بالازمة العالمية و المزيد من الاخبار
الأزمة المالية العالمية 2007-2012
الأزمة العالـــميــة -أشـــكالـــها-