الآثار الاقتصادية المترتبة على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
بعد اضطراب السوق الذي شهدته الأيام القليلة الماضية، نعرض بعض التأملات حول التصويت التاريخي الذي جرى الأسبوع الماضي في بريطانيا.
أصبح من الواضح الآن أكثر مما كان قبل التصويت أنّ أكبر الخاسرين، من الناحية الاقتصادية، سيكونون البريطانيين أنفسهم. فتح التصويت الباب لسنوات عديدة من حالة عارمة من عدم اليقين في ما يتعلّق بالقواعد التي ستحكم التجارة في المملكة المتحدة مع الدول المجاورة في القارة الأوروبية، وبمصير العمال الأجانب في بريطانيا والعمال البريطانيين في الخارج، وبتوجه البلد السياسي، بما في ذلك ربما كيف سيكون شكل حدودها في نهاية المطاف.
إنّ حالة عدم اليقين هذه ستكسد تشكيل الأعمال، والاستثمارات الرأسمالية، والتوظيف. في الواقع، بدأت هذه الانعكاسات تظهر حتى قبل التصويت. إنّ التباطؤ الاقتصادي الذي ستشهده المملكة المتحدة سيتفاقم بسبب انخفاض قيمات الأصول (كالمنازل والعقارات التجارية والأسهم) وتناقص الثقة من جانب الأسر والشركات. ومن المفارقات، قد يشكّل الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه الاسترليني مخففاً للصدمة في هذه المرحلة في حال عدم حدوث تغيرات، إذ سيجعل الصادرات البريطانية أكثر قدرة على المنافسة.
أما على المدى الطويل، فستتبدّد حالة عدم اليقين هذه، بيد أنّ التكاليف الاقتصادية على المملكة المتحدة ستبقى أعلى من الفوائد. ستكون الخدمات المالية وغيرها من الصناعات ذات التوجه العالمي، والتي تعتمد على الوصول غير المقيد إلى الأسواق والتبادلات الأوروبية، تحت الضغط. وفي الوقت نفسه، ستكون المكاسب المزعومة من تحرير المملكة المتحدة من يد بروكسل القوية على المستوى التنظيمي محدودة، لأنه سيكون على بريطانيا على الأرجح أن تقبل معظم تلك القواعد (من دون القدرة على التأثير عليها) كجزء من اتفاقيات التجارة المعاد هيكلتها. ليست الهجرة شائعة كثيراً في المملكة المتحدة، وإبطاؤها كان دافعاً للبعض ممن صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، ولكن من شأن قوة عمالية تنمو بوتيرة أبطأ أن تقلل أيضاً من النمو الاقتصادي العام.
كذلك ستتأثر بقية أوروبا سلبياً، رغم أن فرانكفورت وبعض المدن الأخرى قد تربح وظائف تمويل على حساب لندن. إنّ أكبر المخاطر هنا هي سياسية، كما أشير إلى ذلك على نطاق واسع: في شكلٍ خاص، بدأت الأسواق تتحضر لخطر ممارسة بعض الدول أو المناطق ضغطاَ للحصول على استقلالية أكبر من بروكسل. حتى أولئك المتعاطفين مع مطالب مماثلة يجب أن يقلقوا من الدمار الهائل الذي قد ينتج عن محاولات حلّ الترتيبات التجارية والتنظيمية الراهنة، على غرار ما قد يحصل في بريطانيا العظمى.
إن خطوة يقوم بها أحد أعضاء الاتحاد للخروح منه منطقة اليورو يمكن أن تزعزع الاستقرار بشكلٍ خاص، وكذلك حتى مع احتمال أن يتخلى بلد معين عن العملة المشتركة يمكن أن يتسبب بتهافت على سحب الودائع من المصارف والهجومات التوقعية على الدين السيادي للدولة وعلى الدول الأخرى التي قد تفكر في السير على الخطى ذاتها. إنّ التحدي الذي سيواجهه القادة الأوروبيون هو أن يحافظوا على استمرارية عملية التوحيد الشاملة، بينما يبحثون عن وسائل لمواجهة مخاوف الدول التي يُحتمل أن تترك الاتحاد. من المشاكل التي يمكن إعادة مراجعتها نذكر التزام الاتحاد الأوروبي بالسماح للأفراد بحرية التنقل التامة عبر الحدود، الذي يُعتبرمبدأً سياسياً أكثر منه اقتصادياً؛ وفكرة أن المملكة المتحدة قد فقدت السيطرة على حدودها كانت من الحجج الأكثر فعالية للتصويت لخروج المملكة من الاتحاد، بالإضافة إلى استغلال التيارات الإنفصالية في أماكن أخرى لهذه المسألة.
على الصعيد العالمي، تنعكس صدمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمعظمها على الأسواق المالية، في ظل بيع المستثمرين للأصول الخطرة كالأسهم واحتشدوا في الملاذات التي يُفترض أنها آمنة كالدولار والدين السيادي للولايات المتحدة وألمانيا واليابان. قد يكون المستثمرون أكثر تجنباً للمخاطر مما كانوا ليكونوا عليه في خلاف ذلك لأنهم يدركون أنّ المساحة المتاحة أمام المصرفيين المركزيين في الاقتصاديات المتقدمة لتسهيل السياسة النقدية هي أقل مما كانت عليه في الماضي. ومن بين البلدان الأكثر تضرراً هي اليابان حيث المعركة ضدّ الانكماش قد تنتكس في ظل ارتفاع الين وانخفاض أسعار الأسهم اليابانية.
أما في الولايات المتحدة، فمن غير المرجّح أن يعرقل اضطراب السوق الانتعاش الاقتصادي، طالما أن ظروف الأسواق المالية لا تسوء كثيراً: لا يزال ارتفاع سعر الدولار وتراجع الأسهم الأمريكية معتدلاً نسبياً حتى الآن. علاوةً على ذلك، يعوض تراجع معدلات الفائدة الأمريكية الأطول مدى (بما في ذلك معدلات الرهن) جزئياً انحسار آثار الدولار والأسهم على الظروف المالية. ولكن، سيبقى الاحتياطي الفدرالي وصناع السياسة الأمريكية الآخرين حذرين إلى أن تُعالج آثار التصويت البريطاني بشكلٍ أفضل.
رغم تأثر أسعار أسهم البنوك، لاسيما في المملكة المتحدة وفي أوروبا، يبدو حدوث أزمة مالية أمراً مستبعداً عند هذه المرحلة. تراقب المصارف المركزية التمويل والظروف المالية للبنوك، وحتى الآن لم تظهر أي مشاكل خطيرة. (وقد ساعد على ذلك أن تاريخ الاستفتاء معروف منذ أشهر، مما أعطى السلطات وقتاً لتستعد. وساعد كذلك الارتفاع الكمي للرأسمال المصرفي في السنوات الأخيرة). من خلال خطوط تبادل عملاتها التي أنشأت خلال الأزمة المالية العالمية، يقوم الاحتياط يالفدرالي بالتأكد من أن المصارف المركزية الكبرى الأخرى يمكنها الحصول على الدولار. وكما سبق وأشرت، يبدو أن المخاطر الأكبر التي تهدد الاستقرار المالي عند هذه المرحلة في مخاطر سياسية – لا سيما، خطر ارتدادات أو انهيارات إضافية في الاتحاد الأوروبي – أكثر مما هي اقتصادية. لم تنته القصة هنا على الأرجح.