بين الحين والآخر، تحصل أحداث غير متوقعة تبعث على الارتياح، وتحدث تغييرات عميقة في النظام الجيوسياسي. هذا ما حدث حينما اجتاحت الثورة العربية مصر من تونس. أنهى التحدي الشعبي للحكام الاستبداديين فكرة أن الشرق الأوسط غير مبالٍ بالحرية. وكشف بالمصادفة أوهام الغرب.
سيكون الوصف اللطيف الذي ينطبق على رد واشنطن، وأماكن أخرى، إزاء الهبة في مصر، هو أنه مشوه. فقط بعد حلول التغيير الشامل، سيبدأ الأمريكيون والأوروبيون اللحاق بركب طموحات الحركة المؤيدة للديمقراطية، فما إن انفجر العنف في ميدان التحرير، حتى بدؤوا بتشديد لهجتهم.
بعد أن أُخذ على حين غرة، بدأ الغرب بمسايرة التيار. تريد الولايات المتحدة ''انتقالاً منظماً''، رغم أنها تبقى غامضة إزاء ما ما يعني هذا. تؤيد بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا إجراء انتخابات حرة وعادلة – طالما أن صندوق الاقتراع لا يضفي الشرعية على الإسلاميين، مثل الإخوان المسلمين.
الصحيح هو أنه كانت هناك مناقشات أكثر تشدداً خلف الكواليس. حث باراك أوباما في وقت متأخر على التغيير الشامل عاجلاً، وليس آجلاً. واستخدمت واشنطن صلاتها الوثيقة مع الجيش المصري لنقل الرسالة ذاتها. فلماذا تبدو الولايات المتحدة دائماً أفضل صديق للجنرالات في هذه الأماكن؟
أثار القادة الأوروبيين ظهور المحتجين، الأمر الذي أدى إلى زيادة الخطابة البلاغية إلى درجة ما. وعلى الرغم من ذلك، بالكاد كانت البيانات تخفي الرفض العميق لإصدار دعوة صريحة للتغيير الشامل.
أخذت الانتفاضة في مصر الحكومات الغربية على حين غرة. وحتى بعد الإطاحة برئيس تونس، زين العابدين بن علي، كانت تلك الحكومات متشككة إزاء نطاق العدوى. كان النظام المصرفي هدفاً واضحاً للمحتجين بشكل غير مباشر، غير أن الخبراء استنتجوا أن قوى الأمن التابعة سوف تقمعهم.
يبدو سوء الحكم الآن واضحاً في بعض الممارسات المنافقة بشدة. كانت الدعوة في المنطقة للبيت الأبيض الحفاظ على الاستقرار. يجب ألا يزعزع الدعم للحرية في مصر استقرار الأنظمة في أماكن أخرى. يترك هذا الالتواء اللاحق دعم الولايات المتحدة للقوى المؤيدة للديمقراطية في مصر، مقيداً بشكل واضح بالمخاوف من أن انتقال العدوى إلى المنطقة ككل.
هذه هي السياسة الواقعية، حسبما يقول لي أصدقائي الدبلوماسيون. وعلينا أن ندرك المصالح المتضاربة. ويجب على الغرب، حسبما يقولون، ''أن يسير على خيط رفيع''، و''المحافظة على توازن ما''. ويؤيد الجميع الحرية والكرامة الإنسانية – ولكن هناك حدود لذلك.
إن ذلك يعكس التعثر والتلعثم الدائم في سياسة الولايات المتحدة (والسياسة الأوروبية) بين القيم المعلن عنها، والمصالح الاستراتيجية الواضحة. وبطبيعة الحال، لا يمكن إبعاد الشرق الأوسط عن الحريات الديمقراطية، ولكن يجب تقييم الحرية مقابل الحصول على النفط، أو الدعم لإسرائيل.
ليس من شيء جديد في المعايير المزدوجة الواضحة تماماً الآن. تذكرت التحذيرات السابقة التي أطلقها دبلوماسيو الولايات المتحدة خلال خمسينيات القرن الماضي. وحتى في ذلك الحين، فإن المبعوثين الأمريكيين في أماكن مثل بغداد كانوا يقولون لإدارة دوايت إيزنهاور إن دعمها للأنظمة، وأسلوبها الملتوي إزاء القضية الإسرائيلية ـــ الفلسطينية كان يقوض الشرعية الأمريكية.
كان الرد من جانب واشنطن على هذه التوسلات: حظاً أوفر. كانت أمام الولايات المتحدة حرب باردة تخوضها. وقال جورج كينان، مهندس سياسة احتواء الاتحاد السوفيتي، إن الولايات المتحدة ليست في مسابقة للحصول على الشعبية. وبدلاً من ذلك: فإن علينا أن نثبت... أننا جادون في حماية مصالحنا الاستراتيجية.
بناءًَ عليه، فإن معارضة موسكو، أو الاستعداد للمصالحة مع إسرائيل، يعد من الآن فصاعداً ''معتدلاً''. ومضى هذا المبدأ دون تحد إلى حد ما إلى أن أعلن جورج دبليو بوش فشله في 2003. وكانت المشكلة بحلول ذلك الوقت بديل بوش ـــ الديمقراطية باستخدام الصواريخ ـــ تتعرض إلى أخبار الدمار في الفوضى التي سادت العراق. لكن التصويت الفلسطيني لمصلحة حماس الإسلامية، قضى على ذلك.
هناك عاملان أساسيان من الغرور خلف ستار السياسة الغربية. الأول هو أن بالإمكان شراء الاستقرار بدعم الحكم الأوتوقراطي. والثاني هو أن واشنطن، بمساعدة عرضية من أوروبا، لديها القدرة على تشكيل مصير المنطقة.
طالما بالغت واشنطن في تقدير نفوذها ـــ مثلما فعلت بريطانيا وفرنسا قبلها. وكشفت الأحداث الأخيرة عن هذا الوهم. ومما لا شك فيه أن بإمكان أوباما التشاور مع نيكولا ساركوزي، وأنجيلا ميركل، وديفيد كاميرون، وتنسيق رد الغرب. ونعم، تملك واشنطن نفوذاً على الجيش المصري. ولكن الرسالة الواضحة تماماً من الشوارع هي أن القرارات الكبيرة تقع على عاتق العرب.
مزقت الانتفاضة المصرية الافتراض من جانب ما يطلق عليهم واقعيو السياسة الأجنبية بأن الحكم الأوتوقراطي مرادف للاستقرار. وسوف ترى الواقعية الفعلية أوباما والجميع، يدركون القيود على نفوذهم. لقد تغير العالم، وتغير ميزان القوة. ولم تعد الولايات تضع جميع القوانين. بإمكان الأمريكيين والأوروبيين – ويجب عليهم كذلك – الإعلان عن أنهم يقفون إلى جانب الحرية. ويجب أن يفكروا ملياً بشأن علاقاتهم مع الأنظمة الأخرى. إضافة إلى ذلك، عليهم أن يدركوا أن المنطقة سوف تقرر مستقبلها بنفسها.
الخيارات التي يتخذها العرب تتعدى نطاق التوقع الغربي، فضلاً عن نفوذه. والخبراء الذين فشلوا في توقع الانتفاضة التونسية والمصرية، يسألون بفزع الآن أين الثورة التالية؟ ويبدو أنها تتجه نحو البلدان الضعيفة.
وربما تجد الأنظمة أن من الأسهل سحق المعارضة. ومن يدري؟ وما هي التداعيات بالنسبة إلى إيران؟
الجميع يتخبط في الظلام. ويجب تقييم قوة المحتجين المصريين مقابل قوة الإخوان المسلمين، فضلاً عن الداعمين للنظام. وتبقى نوايا الجيش مبهمة. لا بد أن هناك فرصة لحدوث فوضى. وما علينا سوى أن ننظر كيف تحولت البهجة إلى فوضى دموية في العراق بعد الإطاحة بصدام حسين.
ما زالت للغرب حصة كبيرة في النتيجة. ويجب عليه أن يهتف لقوى الحرية، وسيادة القانون، أي أن بإمكانه تقديم المساعدة. وعلى الرغم من ذلك، تبدأ الحكمة الجديدة بالاعتراف بأن الشرق الأوسط ينتمي إلى شخص آخر.