الأنظمة الفاسدة تصنع شعوبا فاسدة ، فهل تستطيع الثورات السياسية وحدها تغيير الإنسان العربي و انتشاله من تلك العقلية المسكونة بكل أنواع الروائح الكريهة ؟ هل الأمر بسيط أم أنه يحتاج لثورة أخرى ؟ ثورة على الذات ، ثورة للتغير الداخلي...
خلال قرون طويلة تعود الإنسان العربي أن يكون خاضعا و عبدا مأمورا للطغاة ، يتلقى الضرب على قفاه و يحني الرأس مثل الخروف و يدمن على المسكنة و الدروشة و الشكوى التي لا تنتهي .. الإنسان المقموع يغرق دائما في السلبية و تتشكل لديه عقلية لا مبالية و عديمة الإحساس بالمسؤولية بل وعديمة الكرامة و الضمير.. الأنظمة الفاسدة تنظر إلينا باعتبارنا رعايا لا مواطنين ... أو قطيعا من الغنم لا نفهم إلا لغة العصا و لا نصلح إلا للكدح و تقبيل رجل ولي الأمر ...
يولد الإنسان بلا شخصية ، يكون عقله صفحة بيضاء أو عجينة خضراء كما قال الفيلسوف المصري الجاهلي شعبان عبد الرحيم ( من كبار فلاسفة عصر الظلمات ) و يخضع لمسلسل طويل من البرمجة السلبية تماما مثل الحاسوب الفاسق ..لقد تطلب الأمر سنوات طويلة لاكتساب عادة رمي الأزبال في الشارع و تكسير الكراسي في الملاعب و الغش في الميزان و سرقة النعال من المساجد و الانحناء أمام الوزير و تقبيل حذاء الشرطي و ما إلى ذلك من السلوكيات الراسخة في عقل الإنسان العربي المتجمد و لا يمكن أن نتوقع تغير العقليات بعد سنة واحدة أو سنتين.
إسقاط الأنظمة مجردة خطوة بسيطة نحو خلق عالم أفضل ، لأن تغيير العقليات مشروع كبير يحتاج لسنوات تضاهي عمر الأخت الفاضلة نانسي بنت أبي عجرم أو زميلتها في الحرفة هيفاء بنت أبي وهبي ، فليس باستطاعة الثورات السياسية أن تحذف الفيروسات المعششة في دماغ الإنسان الذي عانى طويلا من الطغيان و الإرهاب الذي مارسته الأنظمة المصنوعة في مطابخ واشنطن و باريس و لندن ، و ليس بوسع الثورة أن تخلق إنسانا جديدا في غمضة عين ...
بعد الثورة الفرنسية ظل الإنسان الفرنسي غارقا في بؤسه و عاداته الهمجية ، وظلت باريس غارقة في زبالتها عقودا طويلة ، و نظرة عابرة على روايات بالزاك و إميل زولا في القرن التاسع عشر ستجعلنا ندرك جيدا أن الثورة الفرنسية أطاحت بالنظام الملكي المستبد لكنها لم تستطع إن تغير عقلية الإنسان الفرنسي .... احتاجت باريس لعقود طويلة لتصبح عاصمة الأناقة و النظافة ...
المواطن العربي كان ضحية لسنوات طويلة من الظلم و القهر و الكبت الفكري و العاطفي ، و يحتاج لمساعدة عاجلة من سوبرمان أو سبايدرمان كي يستطيع كسر القيود النفسية التي تعيق انطلاقته و تمنعه أن يكون إنسانا بكل ما في الكلمة من معنى .. .. العقلية العربية ملوثة بكل أنواع العادات الرديئة و الرغبات المكبوتة و القاذورات الفكرية و السلوكية .. باختصار العقلية العربية عبارة عن مرحاض قذر تحيط به أسراب الذباب و الناموس ...
لذلك يحتاج الإنسان العربي أولا أن يتغير داخليا و أن ينظف عقله من كل تلك الأفكار الملوثة التي تمنعه من إعلان القطيعة مع الماضي المغموس في مرق الانحطاط ، نحتاج لثورة فكرية تحرك المياه الراكدة في أعماقنا جميعا ، نحتاج أن نعلن القطيعة مع السلوكيات البهيمية و اللاعقلانية التي تجعلنا أضحوكة بين الشعوب .. نحتاج لربيع عربي داخل أنفسنا ، ربيع يقتلع من أعماقنا العادات المريضة و الأخلاق الذابلة ، نحتاج لربيع جديد يمحو من ذاكرتنا ذل العبيد و مسكنة الدراويش ..نحتاج لثورة على أفكارنا السوقية و شتائمنا البذيئة ...
تلعب القراءة دورا عظيما في الرقي بالشعوب ، و شيء عادي أن نشاهد إنسانا يابانيا أو فرنسيا يطالع كتابا و هو جالس في المقهى أو القطار أو الأوتوبيس ، فهل سبق أن رأيت مواطنا عربيا يقرأ كتابا في الأوتوبيس ؟ حتى الذين يمسكون بالجرائد في المقاهي يكتفون بحل الكلمات المتقاطعة ... و معظم العرب مغرمون بكتب الأبراج و الطبخ و الجن و السحر و عذاب القبر و مجلة روتانا .. و تلك الكتب التي من نوعية : كيف تصبح وسيما بدون عمليات تجميل ، أو كيف تحصلين على زوج في خمسة أيام ... الإنسان العربي يحتاج للتصالح مع الكتاب وعدم الاكتفاء بمطالعة كليبات الداعية الفاضلة نانسي بنت أبي عجرم و وزميلتها العالمة الجليلة مريام بنت أبي فارس ...
وكما قال الشاعر المصري الجاهلي الكبير عمرو بن أبي ذياب في إحدى قصائده :
نعيب ذبابنا و العيب فينا *** وما لذبابنا عيب سوانا
و قال الشاعر الجزائري العظيم الشاب بلال :
أغاية الدين أن تحفوا شواربكـم ؟ *** يا أمة ضحكت من جهلها الأمـم !
الإنسان العربي يستحم يوم الجمعة و يذهب إلى المسجد لأداء الفريضة و يستمع لخطبة حول الأخلاق في الإسلام ، و عندما تنتهي الصلاة يترك حذاءه المثقوب في المسجد و يعود لبيته بحذاء جديد ( طبعا مجرد خطأ غير مقصود ) ...و حين يأتي يوم السبت يتوجه إلى أي حانة رخيصة ليحتسي ما لذ وطاب من النبيذ و البيرة ( ساعة لقلبك و ساعة لربك).. و قد يرمي بالنفايات أمام بيت جاره ( إن الله غفور رحيم )..و في رمضاء يصوم و يعتكف لله طوال الشهر و يعد أن يحصل على أجر ليلة القدر العظيمة يعود ميلود لطبعه المعهود...
متى ينجح الربيع العربي ؟
حين نكف عن رمي القاذورات في الشوارع و الأنهار ...
حين نكف عن السير خلف الراعي مثل القطيع...
حين نكف عن سرقة الأحذية و النعال من المساجد...
حين نكف عن الانحناء أمام تمثال الزعيم الخالد ...
حين نكف عن الطواف حول أضرحة الأولياء. ..
حين نكف عن تقبيل أحذية الزعماء...
حين نكف عن النظر للمرأة باعتبارها جارية مخلوقة للكنس و الطبخ و التصبين ..
حين نكف عن اجترار الأمثال القديمة و القصائد القديمة...
حين نكف عن التظاهر بالتقوى أما الناس بينما نحن في حقيقة أمرنا غارقون في الرذيلة من رؤوسنا حتى حوافرنا...
حين نتخلص من حالة الانفصام و تعدد الوجوه و الشخصيات و الأقنعة...
حين نصلي حبا لله و ليس خوفا من جهنم و لا تمثيلا أمام الناس..
إلى ذلك الحين سيبقى الربيع العربي خريفا ذابلا ينتظر أمطار الشتاء .