seragsamy
21-03-2016, 02:01 PM
هل تتواطأ الدول الكبرى لإفشال تحوّل دول العالم الثالث إلى دول صناعية؟
http://cdn.raseef22.com/wp-content/uploads/2016/03/MAIN_Industry.jpg
تخيّل أنك حاكم لمدينة ما، وأنني أنا أمتلك عدداً من المصانع الضخمة في المدينة المجاورة وأقوم بتصدير الغذاء والسيارات وأجهزة الهاتف وأشياء أخرى كثيرة إلى مدينتك. أنت تستفيد وتستهلك بضائعي وأنا جزء كبير من مداخيلي وثروتي يقوم على بيعك ما أقوم بإنتاجه. فهل من مصلحتي أن أستيقظ ذات صباح لأجد أن مدينتك نجحت في إنشاء صناعة مماثلة وتسعى إلى الاكتفاء الذاتي بعيداً عن منتجاتي؟
الوصفة الفاشلة
عام 1989 قدّم الاقتصادي الإنكليزي "جون ويليامسون" John Williamson عشر توصيات لصياغة خطة لخروج الدول النامية من أزماتها الاقتصادية. هذه التوصيات ستصبح محورية في الاقتصاد العالمي بعد ذلك وستُعرف بـ"توافق واشنطن" Washignton Consensus.
"توافق واشنطن" هو اتفاق في وجهات النظر بين الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وقد أخرجته المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان في مقدّم ما تم الاتفاق عليه ضرورة قيام الدول النامية بفتح أسواقها على مصراعيها أمام التجارة العالمية وإلغاء الرقابة على تدفق السلع ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى خصخصة القطاع العام.
ولكنّ ويليامسون نفسه عاد بعد ذلك بزمن غير طويل لينتقد قيام الحكومات في الدول الكبرى مع صندوق النقد والبنك الدوليين بتوجيه توصياته لخدمة الأجندة "النيوليبرالية" التي كانت تتسع بشكل متسارع لابتلاع الاقتصادات الناشئة.
وأكّد أنه جرى تجاهل بعض أهم ملاحظاته كضرورة توجيه التنمية نحو الصحة والتعليم بينما اكتُفي بالضغط على الدول النامية لفتح أسواقها. وسواء أكان الاقتصادي الإنكليزي بريئاً مما حدث أو مذنباً، فقد دارت الماكينة ولا تزال تعمل لالتهام الصغار.
وسواء اختلفنا في تحيزنا السياسي ناحية اليسار أو اليمين فإن النتائج تبدو جلية على أرض الواقع. وربما تفيد بعض الاستشهادات بآراء اقتصاديين كبار إلى جانب المرور على التاريخ القريب للاقتصاد العالمي في إيضاح ما يحدث.
إعاقة التنمية
في بحث مطوّل بعنوان "العولمة وتأثيراتها" يقول منير حميش، دكتور في فلسفة الاقتصاد وعمل مديراً للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية: "ركّز الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة على إعاقة التنمية في البلدان النامية عموماً، وفي البلدان العربية خصوصاً، وبالتالي إضعاف الدولة تجاه ما يُفرض عليها من الخارج، في إطار الانخراط في العلاقات العولمية والاندماج بالاقتصاد العالمي".
ما هي الأسباب التي دفعت حميش إلى توجيه مثل هذه الاتهامات؟
أول هذه الأسباب يتلخص في أن العولمة التي تسيطر على فكر العالم الآن، تحمل في صلبها شيئاً آخر هو "الليبرالية الاقتصادية". وتتلخص الليبرالة الاقتصادية في أن تقوم بلدان العالم بفتح أسواقها تماماً أمام التجارة العالمية، وإتاحة الحرية لتنقل رؤوس الأموال وإزالة العوائق التى تحدثها الدولة لتقييد هذه الحركة.
وينتج عن ذلك أن الدول النامية صاحبة الاقتصادات والصناعات الناشئة تعجز عن منافسة الدول الكبرى. ولا يعبّر هذا العجز فقط عن فشل هذه الدول في خطط التنمية بل بشكل أعمق عن التيار الجارف للسوق الذى يعوق أيّة محاولة لتحقيق هذه التنمية المرغوبة.
ففتح الحكومات أبواب الاستيراد على مصراعيها ينتج إغراق الأسواق الداخلية لشعوب العالم الثالث بالسلع الأجنبية. وهذه السلع سواء أكانت تتمتع بالجودة والتقنية العاليتين أو بأسعار منخفضة وجودة أقل، فإن الدول الفقيرة تظل عاجزة عن تحقيق إنتاجية مماثلة قادرة على المنافسة، فهي لا تمتلك السيولة المالية أو التقنية العالية أو الأيدي العاملة المدرّبة القادرة على إحداث الأثر.
الأمر يشبه أن تجد نفسك مضطراً إلى منافسة وحش هائل مدجّج بالأسلحة وأنت لا تمتلك العتاد الكافي لمواجهته. وهذه الحرب المتسارعة لا تتيح لك الوقت أو الفسحة الكافية لتعيد تكوين نفسك ثم معاودة العراك.
قد يكون الحل هو أن تذهب إلى مكان آمن تستعد فيه بما يكفي ثم تعود إلى ساحة القتال. لكن السوق الحرة لا تسمح بذلك لأنها تُلغي سيادة الدولة على اقتصادها الداخلي وتمنعها من تبنّي أيّة إستراتيجيات من شأنها خفض تدفق السلع من الخارج.
ومن الأسباب الأخرى تعميم ثقافة الاستهلاك وخاصة الاستهلاك المفرط بما يتجاوز الحاجات. فالعولمة في جوهرها ترتكز على توحيد الثقافة في جميع مناطق العالم، وتعميم المفاهيم والعادات الاجتماعية وطرق العيش. ويكون الرابح الوحيد من هذا التعميم هو الثقافات الكبرى المسيطرة التي تمتلك المال، وسائل الإعلام، والتقنية بما يساعدها في التأثير على بقية الأطراف.
نحن إذن في عالم تحكمه الشركات الكبيرة والمؤسسات المالية الضخمة. لم تعد السيادة على هذا الكوكب للساسة كما كان الحال في السابق، بل أصبح صاحب رأس المال الكبير يعمل جنباً إلى جنب مع الحاكم على رسم السياسات ويؤثر في توجيهها نحو ما يريده.
السياسات الاقتصادية الشرّيرة
لكن ما الذى يجعل الدول النامية مضطرة إلى فتح أسواقها على هذا النحو الجنوني دون أن يكون لديها الاستعداد الكافي للمنافسة في عالم مفتوح. ربما توجد الإجابة عند صندوق النقد والبنك الدوليين.
ينتقد الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستيغلتز Joseph E. Stiglitz، في كتابه "خيبات العولمة" Globalization and its discontents سياسات هاتين المؤسستين وبالخصوص صندوق النقد الدولي.
ستيغلتز الذي عمل كمدير للبنك الدولي في تسعينيات القرن الماضي يرى أن تحولاً دراماتيكياً حدث في سياسة الصندوق من مساندة الدول الواقعة في أزمات اقتصادية طاحنة، إلى ما أسماه "السياسات الاقتصادية الشريرة" Bad Economic Policies.
فالصندوق الذي كان يعمل في بداياته على إقراض الحكومات المتأزمة اقتصادياً على أساس أن تقوم برفع الإنفاق من أجل التنمية وتخفيض الضرائب وأسعار الفوائد البنكية على الإقراض، أصبح لا يمنح المال إلا تحت شروط تخفيض العجز ورفع الضرائب والفوائد. وبذلك لا يعود الأفراد يمتلكون المال الكافي لشراء السلع مما يصيب الأسواق بالركود.
ويضيف أن البنك الدولي يشترط على الدول الواقعة في أزمات اقتصادية شديدة والمضطرة للاقتراض منه شروطاً من قبيل فتح أبواب الاستيراد بدون قيود، وخصخصة القطاع العام وإلغاء تدخل الدولة في حركة التجارة ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية وتوفير أرضية مناسبة لجذبها.
ويلفت إلى أن هؤلاء المستثمرين الأجانب يسحبون أموالهم من هذه الدول في الأوقات الحرجة، مما يسفر عن سقوط مفاجئ ومرعب للاقتصاد الناشئ في هذه الدولة.
برغم إيمانه بنظرية السوق الحرة، ينقض ستيغلتز نظرة ويليامسون. ويرى أن الصندوق ومن خلفه البنك يقومان بفرض تطبيق نظرية السوق المفتوحة على الدول بدون النظر إلى الظروف الداخلية لكل مجتمع على حدة.
ويصف الصندوق بـ"الإمبريالي" معللاً ذلك بأن عمله صار يصبّ بشكل رئيسي في مصلحة الدول الكبرى، وبشكل أدق في خدمة مصالح الكيانات المالية والشركات الضخمة في هذه الدول. مع العلم أن الولايات المتحدة واليابان على سبيل المثال وفّرا الحماية الكافية لأسواقهما قبل الانخراط في المنافسة في السوق المفتوح.
ما هو صندوق النقد؟
أنشئ صندوق النقد الدولي في أربعينيات القرن الماضي لمساعدة الدول المتضررة من أزمة الكساد الكبير التى اجتاحت العالم. والدور الأكثر أهمية للصندوق هو العمل على استقرار الأسواق العالمية من خلال ضبط أسعار العملات للدول الأعضاء، إضافة إلى إصدار تقارير عن الحالة الاقتصادية في كل بلد، وتوقعات بالأزمات الوشيكة في هذه الدول.
بالنظر إلى البنية الداخلية لصندوق النقد الدولي، فهو يضم ممثلين من دول العالم يمثلون ما يعرف بمجلس المحافظين، وهؤلاء يردون اتخاذ القرارات إلى مجلس تنفيذي يتكون من 24 عضواً.
وجرت العادة على أن يتم تعيين المدير التنفيذي للصندوق من قبل الدول صاحبة أكبر حصص في الصندوق، لكن مع التغيير الأخير الذي حدث في يناير 2016 سيتم اختيار المدير وجميع أعضاء المجلس بالانتخاب المباشر من الأعضاء، خاصة أنّ الصين وروسيا والبرازيل والهند انضمّت إلى الكبار (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، المملكة المتحدة، اليابان، الولايات المتحدة) وزادت حصصها في الصندوق إلى ما يقارب الضعف، اعترافاً بكونها اقتصادات صاعدة حققت نجاحات في السنوات الأخيرة.
لكن الأزمة التي من السهل ملاحظتها هي أن القوة التصويتية لكل عضو من الـ188 بلداً المنضمة للصندوق ليست متساوية، إذ يتم حساب القوة التصويتية للدولة قياساً بحجم اقتصادها.
هذا يعني أن الدول صاحبة الحصص الكبيرة في الاقتصاد العالمي تصبح دائماً هي الدول التي تمتلك نسبة التصويت الأعلى. فالدول الفقيرة تموّل الصندوق بحصص ضئيلة وفي المقابل تمتلك قوة تصويتية ضئيلة للغاية.
ما هو البنك الدولي؟
ينصبّ عمل البنك الدولي على الإقراض لإحداث التنمية في الدول الأكثر فقراً وإصدار التقارير والنصائح التي من شأنها أن تحدث التنمية المطلوبة. وقد عمل البنك مثلاً على انتقال 24 دولة حول العالم خلال السنوات الأولى لعمله من المرحلة الأشد فقراً التي يقل فيها دخل الفرد عن 1305 دولارات في العام، إلى المرحلة التالية. كما عمل على نقل 20 دولة أخرى من هذه المرحلة الأخيرة إلى أوضاع أكثر ازدهاراً.
مسؤولية الدول المقترضة
لا تجد رئيسة قسم الاقتصاد في جامعة عين شمس يمنى الحماقي داعياً لانتقاد صندوق النقد والبنك الدوليين. برأيها، هذه المؤسسات لا تضرب أحداً على يديه للاقتراض منها، وإذا كانت الحكومات في الدول النامية حريصة على الصناعة المحلية بما فيه الكفاية فستجبر الصندوق على الامتثال لخطتها، إذ يمكنها أن تقوم بترشيد الإنفاق كما يشترط الصندوق من خلال تحسين الكفاءة في الإنفاق لا بتقليص الاهتمام بالبنية التحتية وتحسين التعليم والصحة.
ولكن كفاءة الإنتاج المطلوبة هذه لا تتأتى إلا من خلال سياسات شفافية والقضاء على الفساد، فيما تتصدّر الدول النامية قائمة البلدان الفاسدة حول العالم.
ويقول كينيشي أوهمي Kenichi Ohm، أحد الاقتصاديين المؤيدين بشدة لنظرية السوق الحرّة، في كتابه المترجم إلى العربية "الاقتصاد العالمي... المرحلة التالية"، إن عجلة العولمة والاتجاه إلى إزالة الحدود بين الدول في التجارة والثقافة لن تعود إلى الخلف والدول التي لا تودّ الاندماج في السوق الحرة لم يعد بإمكانها البقاء على هذا الوضع.
هو الآخر يحاول أن يقدم وصفة للاندماج في السوق المفتوحة دون الإضرار بالتنمية بل وحتى تحسينها.
قد تكون العودة إلى الوراء غير ممكنة. ولكن الواقع يقول إن بقاء سياسات الدول الكبرى وضغوط المؤسسات الدولية وفساد الحكومات في البلدان الفقيرة لا تؤدي إلا إلى خنق الصناعات الوطنية في الدول النامية وبالتالي إلى بقائها في أزمات اقتصادية تتجدد ولا تنتهي.
http://cdn.raseef22.com/wp-content/uploads/2016/03/MAIN_Industry.jpg
تخيّل أنك حاكم لمدينة ما، وأنني أنا أمتلك عدداً من المصانع الضخمة في المدينة المجاورة وأقوم بتصدير الغذاء والسيارات وأجهزة الهاتف وأشياء أخرى كثيرة إلى مدينتك. أنت تستفيد وتستهلك بضائعي وأنا جزء كبير من مداخيلي وثروتي يقوم على بيعك ما أقوم بإنتاجه. فهل من مصلحتي أن أستيقظ ذات صباح لأجد أن مدينتك نجحت في إنشاء صناعة مماثلة وتسعى إلى الاكتفاء الذاتي بعيداً عن منتجاتي؟
الوصفة الفاشلة
عام 1989 قدّم الاقتصادي الإنكليزي "جون ويليامسون" John Williamson عشر توصيات لصياغة خطة لخروج الدول النامية من أزماتها الاقتصادية. هذه التوصيات ستصبح محورية في الاقتصاد العالمي بعد ذلك وستُعرف بـ"توافق واشنطن" Washignton Consensus.
"توافق واشنطن" هو اتفاق في وجهات النظر بين الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وقد أخرجته المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين.
وكان في مقدّم ما تم الاتفاق عليه ضرورة قيام الدول النامية بفتح أسواقها على مصراعيها أمام التجارة العالمية وإلغاء الرقابة على تدفق السلع ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى خصخصة القطاع العام.
ولكنّ ويليامسون نفسه عاد بعد ذلك بزمن غير طويل لينتقد قيام الحكومات في الدول الكبرى مع صندوق النقد والبنك الدوليين بتوجيه توصياته لخدمة الأجندة "النيوليبرالية" التي كانت تتسع بشكل متسارع لابتلاع الاقتصادات الناشئة.
وأكّد أنه جرى تجاهل بعض أهم ملاحظاته كضرورة توجيه التنمية نحو الصحة والتعليم بينما اكتُفي بالضغط على الدول النامية لفتح أسواقها. وسواء أكان الاقتصادي الإنكليزي بريئاً مما حدث أو مذنباً، فقد دارت الماكينة ولا تزال تعمل لالتهام الصغار.
وسواء اختلفنا في تحيزنا السياسي ناحية اليسار أو اليمين فإن النتائج تبدو جلية على أرض الواقع. وربما تفيد بعض الاستشهادات بآراء اقتصاديين كبار إلى جانب المرور على التاريخ القريب للاقتصاد العالمي في إيضاح ما يحدث.
إعاقة التنمية
في بحث مطوّل بعنوان "العولمة وتأثيراتها" يقول منير حميش، دكتور في فلسفة الاقتصاد وعمل مديراً للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية: "ركّز الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة على إعاقة التنمية في البلدان النامية عموماً، وفي البلدان العربية خصوصاً، وبالتالي إضعاف الدولة تجاه ما يُفرض عليها من الخارج، في إطار الانخراط في العلاقات العولمية والاندماج بالاقتصاد العالمي".
ما هي الأسباب التي دفعت حميش إلى توجيه مثل هذه الاتهامات؟
أول هذه الأسباب يتلخص في أن العولمة التي تسيطر على فكر العالم الآن، تحمل في صلبها شيئاً آخر هو "الليبرالية الاقتصادية". وتتلخص الليبرالة الاقتصادية في أن تقوم بلدان العالم بفتح أسواقها تماماً أمام التجارة العالمية، وإتاحة الحرية لتنقل رؤوس الأموال وإزالة العوائق التى تحدثها الدولة لتقييد هذه الحركة.
وينتج عن ذلك أن الدول النامية صاحبة الاقتصادات والصناعات الناشئة تعجز عن منافسة الدول الكبرى. ولا يعبّر هذا العجز فقط عن فشل هذه الدول في خطط التنمية بل بشكل أعمق عن التيار الجارف للسوق الذى يعوق أيّة محاولة لتحقيق هذه التنمية المرغوبة.
ففتح الحكومات أبواب الاستيراد على مصراعيها ينتج إغراق الأسواق الداخلية لشعوب العالم الثالث بالسلع الأجنبية. وهذه السلع سواء أكانت تتمتع بالجودة والتقنية العاليتين أو بأسعار منخفضة وجودة أقل، فإن الدول الفقيرة تظل عاجزة عن تحقيق إنتاجية مماثلة قادرة على المنافسة، فهي لا تمتلك السيولة المالية أو التقنية العالية أو الأيدي العاملة المدرّبة القادرة على إحداث الأثر.
الأمر يشبه أن تجد نفسك مضطراً إلى منافسة وحش هائل مدجّج بالأسلحة وأنت لا تمتلك العتاد الكافي لمواجهته. وهذه الحرب المتسارعة لا تتيح لك الوقت أو الفسحة الكافية لتعيد تكوين نفسك ثم معاودة العراك.
قد يكون الحل هو أن تذهب إلى مكان آمن تستعد فيه بما يكفي ثم تعود إلى ساحة القتال. لكن السوق الحرة لا تسمح بذلك لأنها تُلغي سيادة الدولة على اقتصادها الداخلي وتمنعها من تبنّي أيّة إستراتيجيات من شأنها خفض تدفق السلع من الخارج.
ومن الأسباب الأخرى تعميم ثقافة الاستهلاك وخاصة الاستهلاك المفرط بما يتجاوز الحاجات. فالعولمة في جوهرها ترتكز على توحيد الثقافة في جميع مناطق العالم، وتعميم المفاهيم والعادات الاجتماعية وطرق العيش. ويكون الرابح الوحيد من هذا التعميم هو الثقافات الكبرى المسيطرة التي تمتلك المال، وسائل الإعلام، والتقنية بما يساعدها في التأثير على بقية الأطراف.
نحن إذن في عالم تحكمه الشركات الكبيرة والمؤسسات المالية الضخمة. لم تعد السيادة على هذا الكوكب للساسة كما كان الحال في السابق، بل أصبح صاحب رأس المال الكبير يعمل جنباً إلى جنب مع الحاكم على رسم السياسات ويؤثر في توجيهها نحو ما يريده.
السياسات الاقتصادية الشرّيرة
لكن ما الذى يجعل الدول النامية مضطرة إلى فتح أسواقها على هذا النحو الجنوني دون أن يكون لديها الاستعداد الكافي للمنافسة في عالم مفتوح. ربما توجد الإجابة عند صندوق النقد والبنك الدوليين.
ينتقد الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستيغلتز Joseph E. Stiglitz، في كتابه "خيبات العولمة" Globalization and its discontents سياسات هاتين المؤسستين وبالخصوص صندوق النقد الدولي.
ستيغلتز الذي عمل كمدير للبنك الدولي في تسعينيات القرن الماضي يرى أن تحولاً دراماتيكياً حدث في سياسة الصندوق من مساندة الدول الواقعة في أزمات اقتصادية طاحنة، إلى ما أسماه "السياسات الاقتصادية الشريرة" Bad Economic Policies.
فالصندوق الذي كان يعمل في بداياته على إقراض الحكومات المتأزمة اقتصادياً على أساس أن تقوم برفع الإنفاق من أجل التنمية وتخفيض الضرائب وأسعار الفوائد البنكية على الإقراض، أصبح لا يمنح المال إلا تحت شروط تخفيض العجز ورفع الضرائب والفوائد. وبذلك لا يعود الأفراد يمتلكون المال الكافي لشراء السلع مما يصيب الأسواق بالركود.
ويضيف أن البنك الدولي يشترط على الدول الواقعة في أزمات اقتصادية شديدة والمضطرة للاقتراض منه شروطاً من قبيل فتح أبواب الاستيراد بدون قيود، وخصخصة القطاع العام وإلغاء تدخل الدولة في حركة التجارة ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية وتوفير أرضية مناسبة لجذبها.
ويلفت إلى أن هؤلاء المستثمرين الأجانب يسحبون أموالهم من هذه الدول في الأوقات الحرجة، مما يسفر عن سقوط مفاجئ ومرعب للاقتصاد الناشئ في هذه الدولة.
برغم إيمانه بنظرية السوق الحرة، ينقض ستيغلتز نظرة ويليامسون. ويرى أن الصندوق ومن خلفه البنك يقومان بفرض تطبيق نظرية السوق المفتوحة على الدول بدون النظر إلى الظروف الداخلية لكل مجتمع على حدة.
ويصف الصندوق بـ"الإمبريالي" معللاً ذلك بأن عمله صار يصبّ بشكل رئيسي في مصلحة الدول الكبرى، وبشكل أدق في خدمة مصالح الكيانات المالية والشركات الضخمة في هذه الدول. مع العلم أن الولايات المتحدة واليابان على سبيل المثال وفّرا الحماية الكافية لأسواقهما قبل الانخراط في المنافسة في السوق المفتوح.
ما هو صندوق النقد؟
أنشئ صندوق النقد الدولي في أربعينيات القرن الماضي لمساعدة الدول المتضررة من أزمة الكساد الكبير التى اجتاحت العالم. والدور الأكثر أهمية للصندوق هو العمل على استقرار الأسواق العالمية من خلال ضبط أسعار العملات للدول الأعضاء، إضافة إلى إصدار تقارير عن الحالة الاقتصادية في كل بلد، وتوقعات بالأزمات الوشيكة في هذه الدول.
بالنظر إلى البنية الداخلية لصندوق النقد الدولي، فهو يضم ممثلين من دول العالم يمثلون ما يعرف بمجلس المحافظين، وهؤلاء يردون اتخاذ القرارات إلى مجلس تنفيذي يتكون من 24 عضواً.
وجرت العادة على أن يتم تعيين المدير التنفيذي للصندوق من قبل الدول صاحبة أكبر حصص في الصندوق، لكن مع التغيير الأخير الذي حدث في يناير 2016 سيتم اختيار المدير وجميع أعضاء المجلس بالانتخاب المباشر من الأعضاء، خاصة أنّ الصين وروسيا والبرازيل والهند انضمّت إلى الكبار (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، المملكة المتحدة، اليابان، الولايات المتحدة) وزادت حصصها في الصندوق إلى ما يقارب الضعف، اعترافاً بكونها اقتصادات صاعدة حققت نجاحات في السنوات الأخيرة.
لكن الأزمة التي من السهل ملاحظتها هي أن القوة التصويتية لكل عضو من الـ188 بلداً المنضمة للصندوق ليست متساوية، إذ يتم حساب القوة التصويتية للدولة قياساً بحجم اقتصادها.
هذا يعني أن الدول صاحبة الحصص الكبيرة في الاقتصاد العالمي تصبح دائماً هي الدول التي تمتلك نسبة التصويت الأعلى. فالدول الفقيرة تموّل الصندوق بحصص ضئيلة وفي المقابل تمتلك قوة تصويتية ضئيلة للغاية.
ما هو البنك الدولي؟
ينصبّ عمل البنك الدولي على الإقراض لإحداث التنمية في الدول الأكثر فقراً وإصدار التقارير والنصائح التي من شأنها أن تحدث التنمية المطلوبة. وقد عمل البنك مثلاً على انتقال 24 دولة حول العالم خلال السنوات الأولى لعمله من المرحلة الأشد فقراً التي يقل فيها دخل الفرد عن 1305 دولارات في العام، إلى المرحلة التالية. كما عمل على نقل 20 دولة أخرى من هذه المرحلة الأخيرة إلى أوضاع أكثر ازدهاراً.
مسؤولية الدول المقترضة
لا تجد رئيسة قسم الاقتصاد في جامعة عين شمس يمنى الحماقي داعياً لانتقاد صندوق النقد والبنك الدوليين. برأيها، هذه المؤسسات لا تضرب أحداً على يديه للاقتراض منها، وإذا كانت الحكومات في الدول النامية حريصة على الصناعة المحلية بما فيه الكفاية فستجبر الصندوق على الامتثال لخطتها، إذ يمكنها أن تقوم بترشيد الإنفاق كما يشترط الصندوق من خلال تحسين الكفاءة في الإنفاق لا بتقليص الاهتمام بالبنية التحتية وتحسين التعليم والصحة.
ولكن كفاءة الإنتاج المطلوبة هذه لا تتأتى إلا من خلال سياسات شفافية والقضاء على الفساد، فيما تتصدّر الدول النامية قائمة البلدان الفاسدة حول العالم.
ويقول كينيشي أوهمي Kenichi Ohm، أحد الاقتصاديين المؤيدين بشدة لنظرية السوق الحرّة، في كتابه المترجم إلى العربية "الاقتصاد العالمي... المرحلة التالية"، إن عجلة العولمة والاتجاه إلى إزالة الحدود بين الدول في التجارة والثقافة لن تعود إلى الخلف والدول التي لا تودّ الاندماج في السوق الحرة لم يعد بإمكانها البقاء على هذا الوضع.
هو الآخر يحاول أن يقدم وصفة للاندماج في السوق المفتوحة دون الإضرار بالتنمية بل وحتى تحسينها.
قد تكون العودة إلى الوراء غير ممكنة. ولكن الواقع يقول إن بقاء سياسات الدول الكبرى وضغوط المؤسسات الدولية وفساد الحكومات في البلدان الفقيرة لا تؤدي إلا إلى خنق الصناعات الوطنية في الدول النامية وبالتالي إلى بقائها في أزمات اقتصادية تتجدد ولا تنتهي.