تفور قدور الشوربة على نيران الحطب في المواقد الحجرية، والنساء يجلسن على أرضية أحد الأكواخ يقطعن أوراق الكودورا الخضراء، ويجهزن الخبز ''الكِسرة'' على الصاجات الساخنة: هذا هو الطعام السريع على الطريقة السودانية. يكتظ مطعم ماما زهرة بالأشخاص الذين يقصدونه لتناول طعام الغداء، وهو على درجة كبيرة من الشعبية لدى المسؤولين الحكوميين في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، حيث إنهم يتوجهون إليه لتناول الطعام التقليدي.
يقدم فريق المطعم المكون من الزوجة روز بيتا جوما، وهي مسيحية، والزوج جيرماليلي رومان، وهو مسلم، الطعام لنحو 700 زبون يوميا، ويعمل لديهما 60 شخصا، ويحققان ربحا قدره 100 ألف دولار في السنة، وهما على وشك أن يؤسسا مطعمهم الثالث.
ليس هذا بالأمر السيئ بالنسبة لامرأة بدأت في أوائل تسعينيات القرن الماضي، في إعداد الأكل السوداني الكلاسيكي خارج منزلها عندما كانت القذائف تضرب خلال خمسة عقود من الحرب الأهلية المتقطعة.
''لقد عشت حياة قاسية؛ ولذلك فإنني أعرف قيمة المال'' كما تقول ابنة الثالثة والأربعين وهي تغرف سمك نهر النيل الطازج من المقلى الذي يفور فيه الزيت. ''إنني مستعدة لأي خطر، لكن هدفي هو التوسع، وخدمة زبائني وإيجاد مزيد من الوظائف للنساء''.
مع اقتراب جنوب السودان من الاستقلال عقب استفتاء أجري في كانون الثاني (يناير)، أيده 99 في المائة من الناس الانفصال عن الشمال، سيكون تمكين المزيد من قصص هذه المشاريع الناجحة، عاملا مهما في تطوير اقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة جدا على النفط وعلى المساعدات الدولية، وتتم إدارة الكثير من الشركات فيه من قبل أشخاص ليسوا من أبناء البلد.
يعتبر فندق جراند بنتيو في مدينة عاصمة ولاية الوحدة التي تبعد نحو 900 كلم إلى الشمال من مدينة جوبا مثالا على هذه المشاريع. قد توجد في الفندق أرتال من الدلاء وستائر مشدودة بقوارير بلاستيكية مقصوصة، لكنه يعتبر فندق 5 نجوم في المدينة ذات الشوارع الترابية التي تشتهر بالعربات ذات الدولابين والقش.
مثل الكثير من الشركات في جنوب السودان، تم تأسيس هذا الفندق وإدارته من قبل الكينيين.
يقول مدير الفندق مارتن كيماثي (58 عاما) والموظف الكيني المدني المتقاعد الذي فضل المباني ذات الطابق الواحد في مدينة بنتيو على المباني العالية في مدينة نيروبي: ''السودانيون يرفضون العمل في الطبخ وتنظيف الأواني؛ لأنهم يعتقدون أن هذه الأعمال لا تليق بهم، والنساء يرفضن العمل في مجال الضيافة؛ لأنهن يعتبرنها كالدعارة''.
تقول ميلودي أتيل، وهي مستشارة سابقة للبنك الدولي، وتدير الآن منصة استثمارية على الإنترنت تدعى بيس ديفيدند بهدف تشجيع الأنشطة الصغيرة في السودان من خلال القروض: ''إن الأجانب كثيرا ما يرون فرصا لا يراها أبناء البلد: إن الكينيين، والهنود، واللبنانيين والصينيين مدهشون في تحديد الفرص في السوق، أما أصحاب المشاريع في جنوب السودان فليست لديهم هذه المعرفة في الغالب''.
تعتبر ماما زهرة واحدة من بضعة قصص نجاح محلية، في منطقة تحوي ثمانية ملايين نسمة لا يوجد فيها إلا 7333 شركة مسجلة. أجبرت الحرب ملايين الأشخاص على ترك مزارعهم، وفي كثير من الأحيان بلدهم، مخلفين وراءهم قليلا من الخبرة، والمعرفة ورأس المال.
كان نجاح المطعم مدفوعا باتفاقية السلام التي أبرمت في 2005 ووضعت حدا للحرب الأهلية، الأمر الذي سمح لجوما بتأسيس مشروعها في سوق البلدة. شجعها زوجها الذي اقترح عليها أن تأخذ إجازة لمدة عامين من دون راتب من عملها في القطاع المدني لكي تبدأ نشاطها. يقول رومان بفخر واعتزاز: لا يمكنك أن تجد أكثر من خمس نسوة من نوع ماما زهرة، وكان في أثناء ذلك يترجم ما تقوله زوجته باللغة العربية. لكن الانفصال سيضيف إلى الاستقرار وسيتم تأسيس المزيد من الأنشطة.
تغلب الزوجان على مشاكل الفساد، وعدم وجود الأرض ورأس المال والعاملين ذوي الخبرة. وحصلا على قطعة أرض من منظمة إسلامية، سمحت لهما بالبناء عليها بالمجان، شرط أن يدفعا أجرة الأرض فحسب بعد أن يستردا تكاليف المشروع.
لكن المعركة الأكبر إلحاحا هي ضد التضخم. لقد رفعا الأسعار بنسبة 10 في المائة هذا العام. وتظهر الإحصائيات الرسمية أن معدل التضخم بلغ 31.5 في المائة في كانون الثاني (ديسمبر)، وذلك ارتفاعا من 5 في المائة قبل عام.
يتم نقل معظم المواد التي يستخدمانها عن طريق البر من أوغندا، ويشتريان صهريجين من الماء يوميا، كما تقول جوما، رافعة صوتها ليعلو على صوت مولد الديزل المكلف الذي يستخدمانه، لكنها تجد عزاء في أشياء أخرى. حيثما أذهب الآن، يعرفني الناس باسم ماما زهرة: وهذا الاحترام يساوي أكثر من المال.